الله الذي يتألم معي ومعك


 

بُعيّد الحرب العالمية الثانية، كتب الفيلسوف اليهودي، وهو أحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية إن المسألة لم تَعُد كيف نشرح الله، لكن كيف نتعايش معه. كانت الصرخة الاحتجاجية بعد الحرب العالمية الثانية والتي قُتل فيها ما يقارب 55 مليون إنسان، هي أين الله من كل هذا؟! قدم اللاهوتي الألماني يورغن مولتمان (1926-2024) إجابته أن الله يتألم معنا.

نشأ منظور يورغن مولتمان اللاهوتي من سياق معاناة إنسانية عميقة. كان لتجاربه كجندي ألماني شاب خلال الحرب العالمية الثانية ووقته اللاحق كأسير حرب تأثير دائم على فهمه لله. إن مشاهدة أهوال الحرب، بما في ذلك موت صديق بجانبه خلال غارة قصف، والصراع مع الذنب والعار المرتبطين بالنظام النازي والمحرقة، قاد مولتمان إلى تقديم رؤية غير تقليدية عن لله والألم.

الله يتألم معنا

في لاهوت مولتمان، اختبر الله آلامنا البشرية من خلال حدث صلب يسوع المسيح. فالإله الذي يعتني حقًا بالعالم يجب أن يكون قادرًا على اختبار معاناة الآلام الذي تمر به البشرية. جادل اللاهوتيون أن الألم هو ناتج عن السقوط والخطية، وأن اختبار الله للألم يُعد تَغيرًا يطرأ الله. يقترح مولتمان إن اختبار الألم في الصليب، ليس تَغيرًا جوهريًا يطرأ على الله، بل اختيار طوعي يعكس طبيعته المحبة. هكذا، لا يُعد الألم هنا تغيرًا يطرأ على الله يُغير من طبيعته وجوهره، لكنه انفتاح طوعي تمامًا على الألم يفعله الله بإرادته الحرة. مولتمان هنا، لا ينكر التغيير، لكنه يوضح أن هذا التغيير يحدث في العلاقات والاختبارات، وليس في جوهر الله الأساسي. لا يتغير الله كما يتغير الإنسان؛ بل يُعتبر اختباره الطوعي للألم وسيلة من وسائل الاتحاد العميق مع الضعف الإنساني: الألم والموت. ومرة أخرى، يؤكد مولتمان أن هذه المعاناة لا تنتقص من جوهره الإلهي، بل هي الطريقة التي يدخل بها الإله في معاناة البشر ويشاركها. فالله يعاني طوعيًا بدافع الحب، وهو ما يتماشى مع تصوره لله كـ”إله حي” يتفاعل مع العالم، يعاني معه، ويستجيب له، بدلاً من أن يكون كيانًا ثابتًا غير متأثر. هو عمل يُعّبِر عن تضامن عميق يعكس الألم والظلم واليأس الذي يعيشه الإنسان.

الصليب كمركز للمعاناة

يحتل صلب المسيح موقعًا محوريًا في اللاهوت الذي يقدمه مولتمان، إذ يمثل حدث الصلب تجسيدًا حيًا لفكرة الإله الذي يختبر آلامنا. لا يُنظر إلى الصلب على أنه مجرد ضرورة حتمية، بل هو عمل عميق من أعمال الانخراط مع الضعف الإنساني. فمن خلال صلب المسيح، يشهد المؤمنون على إله يختار مشاركتهم أعمق تجاربهم الإنسانية؛ من الألم والمعاناة وحتى الموت. هذا الفعل من العطاء الذاتي ليس إلا تجسيدًا لخطة الله لخلاص البشر. إن الله هنا لا يُعلن فقط أنه يُقدم ابنه من أجل خلاص البشرية، بل أيضًا، يُقدم اختبارًا حقيقيًا للاتحاد مع الإنسانية في عمق ضعفها.

يختلف الكثير من اللاهوتيين حول فكرة مولتمان عن “تألم الله”، لكن المؤكد أن الله قَدم اختبارًا حقيقيًا لهذا الاتحاد مع الإنسانية.

الصليب ليس هو المشهد الختامي

في عام 2004، أخرج ميل غيبسون واحدًا من أبرز أفلامه وأكثرها جدلًا، والذي يُعَدّ من العلامات الفارقة في تاريخ السينما، وهو فيلم “آلام المسيح.” حصل الفيلم على تصنيف (R) نظرًا لما احتواه من مشاهد قاسية وعنيفة، غارقة في الدماء والألم. فقد كان جوهر الفيلم، كما صرّح غيبسون نفسه، هو “الألم”؛ الألم الذي اجتازه يسوع بكل ما فيه من عنف وإهانة، تعذيب واحتقار، خوف ورعب، وصولًا إلى النهاية المحتومة التي ختمت هذا المشهد المروّع: الموت، بوصفه النهاية النهائية والمهينة.

لا يستطيع أحد أن يجزم يقينًا أن كان الموت ذاته يتضمّن ألمًا، إذ إن من يعبره لا يعود ليخبرنا. غير أن المؤكّد هو أنّ الموت في معظم الأحيان يسبقه قدر من الألم، سواء كان ذلك في صورة مرض أو إنهاك أو معاناة. دائمًا ما يُمثّل الموت المشهد الختامي لحياة الإنسان، وهو مشهد يسبقه غالبًا شقاءٌ طويل. وهكذا يبقى الألم والموت هما معضلة الوجود الإنساني الكبرى، وسؤالنا الأزلي الذي لا نجد له إجابة شافية.

لكن إذا نظرنا إلى المشهد النهائي في الفيلم، بل وفي روايات الأناجيل، سنكتشف أن هذا المشهد يحمل اختلافًا جوهريًا. فالنهاية ليست عند القبر، بل هناك نهاية أخرى مغايرة وسعيدة: القيامة. القيامة التي تُحوّل المشهد من مذبحة ظالمة دموية تحمل قهرًا جسديًا ونفسيًا إلى انتصار إلهي. ذلك الذي عُذّب وطُرد، واحتُقر وسُلِّم إلى الموت من قِبَل الجميع، ما عدا قلة من تلاميذه، ها هو يقوم من الموت ويهزم الظلم ويُبطل قسوته، بل ويسخر من سلطانه.

إن النهايات السعيدة ليست حكرًا على الأفلام، وإن كان مصطلح “النهاية” في ذاته غير دقيق عند الحديث عن القيامة؛ لأن القيامة، بكل أبعادها، ليست مجرد خاتمة، بل هي بداية فعل شركة مستمرة لا تنتهي. فالمسيح لم يشاركنا وجوده على الأرض فقط قبل موته، بل شاركنا الحياة كلها: قبل الألم، وأثناءه، وبعده. هذا هو جوهر التجسد والفداء، كما عبّر عنه الرسول بولس في رسالته إلى أهل فيلبي، حين كتب:

“هو الَّذي في صورة الله لم يَعُدَّ مُساواته لله غنيمة، بل تَجرَّدَ من ذاته، مُتّخِذًا صورة عبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب.” (فيلبي 2: 6-8)

في هذه الكلمات، تتجلّى ذروة الإخلاء الإلهي، والشركة الكاملة مع الألم الإنساني، والاتحاد العميق بالمصير البشري، لا لتأكيد سطوة الألم، بل لكسر سلطانه. إن قيامة المسيح ليست مجرّد حدث وقع بعد الموت، بل هي إعلان عن انتصار الحياة، وإعادة تشكيل معنى الألم والموت في ضوء الحب الإلهي الذي يشاركنا كل شيء، حتى أقسى لحظات الوجود. هكذا، مثلما اشترك الله معنا في الألم والموت، اتحدنا معه أيضًا في هزيمته للألم والموت. في ثيؤطوكية الجمعة من التسبحة السنوية القبطية، تقول القطعة الثالثة: “و أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس وجعلنا واحدًا معه من قبل صلاحه.”

أسبوع الآلام وعيد القيامة

أسبوع الآلام ليس مجرّد تذكار نتأمل فيه أن الله قد تعاطف مع آلام البشر، بل كان فعل شركة حقيقية، تتّحد فيه الإنسانية بيسوع، اتحادًا يبلغ ذروته في القيامة، حيث تنتصر البشرية كلها على الألم والموت بفضل هذا الاتحاد. إنّ القيامة ليست مجرد حدث تاريخي قد مضى وانتهى، نحتفل به كتقليد سنوي؛ بل هي إعلان مستمر عن ذروة هذه الشركة التي لا تنقطع بين الله والإنسان.

في هذا السياق، لا يمكن فهم القيامة إلا بوصفها استمرارًا لحدث التجسد، واكتمالًا لما بدأه الله حين اقترب من الإنسان، وسكن بيننا. فكما يعبّر جوزيف راتسنجر (البابا بندكتوس السادس عشر)، فإن يسوع هو “حضور الله الحي. في شخصه يتلامس الله والانسان، الله والعالم.” إن هذا اللقاء لا يحدث كحالة عابرة، بل كاتحاد دائم، يتجلّى في صميم التجسد، ويُستعلن في الآلام، ويُتوجّ في القيامة.

بهذا المعنى، يُصبح أسبوع الآلام والقيامة معًا ليسا فصولًا من سيرة شخص فريد فحسب، بل هما لحظة كونية فارقة، تتّسع لتشمل الإنسان كله، وتعطي للألم معنى، وللموت رجاء، وللحياة أفقًا جديدًا ممتدًا نحو شركة لا تنتهي بين الله وخليقته.

إرسال تعليق

أحدث أقدم