لم تنتهِ حقبة ترامب. بل يمكن القول إنها بدأت للتو.
فجّرت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025 زلزالاً سياسياً وأيديولوجياً. إذ يعد ترامب مواطنيه بإعادة رسم ملامح الحكم في الولايات المتحدة ومكانتها على المسرح الدولي. بدءًا من قومية اقتصادية متشددة، إلى تفكيك منهجي لأجهزة الحكم، ومن تصعيد الحروب الثقافية إلى سياسة خارجية تنبذ التحالفات التقليدية، تمضي أمريكا في مسار جديد تمامًا، قد يبدو جريئا لكن له مخاطره. البعض يصفه بالثورة، وآخرون يرونه انتكاسة خطيرة. لكن المؤكد: هذه ليست سياسة أمريكية تقليدية كما عهدناها.
عودة “أمريكا أولاً”: من الحُلم إلى الواقع
لم يعد شعار “أمريكا أولاً” مجرد صدى لحملة انتخابية. إنه الآن خارطة طريق. فمع صلاحيات تنفيذية أوسع ومعارضة أضعف، ضاعف ترامب من اعتماده على مزيج من الحمائية الاقتصادية، وعداء العولمة، والتركيز على السلطة المركزية. بالنسبة لأنصاره، هذا يعني استعادة السيادة الوطنية. أما بالنسبة لمعارضيه، فهو تهديد لمبادئ الحكم الديمقراطي والتحالفات الدولية.
والنتيجة؟ أميركا تتغيّر—وبسرعة.
رسوم جمركية مرتفعة، حروب تجارية، وعجز مالي متضخم
في أولى خطواته المحمومة، فرضت الإدارة الجديدة رسوماً جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات. خطوة وُصفت بأنها تسعى لإعادة توطين الصناعة الأميركية، ومعاقبة الشركاء التجاريين الذين لا يُعاملون الولايات المتحدة بالمثل. الصين كانت الهدف الأول، مع فرض رسوم تفوق 100% على بعض صادراتها، فيما تدرس كندا والاتحاد الأوروبي اتخاذ تدابير مضادة.
النتائج بدأت تظهر: ارتفاع في أسعار السلع، توترات في سلاسل التوريد، ومخاوف متزايدة من تضخم اقتصادي. ووفقاً لتقديرات داخلية، قد تصل نسبة الرسوم الجمركية الفعلية إلى 22.5%—في سابقة لم تشهدها البلاد منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فالإدارة تسعى الآن لترسيخ تخفيضات الضرائب التي أقرت عام 2017، ما قد يؤدي إلى تضخم كبير في الدين العام. وفي خضم هذا كله، تروج أصوات أكثر تطرفاً لفك الارتباط مع الاحتياطي الفيدرالي والعودة إلى معيار الذهب—خطوة تهدد النظام المالي العالمي، بأكمله.
ماذا يعني فك الارتباط مع الاحتياطي الفيدرالي والعودة إلى الذهب؟
يُعتبر الاحتياطي الفيدرالي البنك المركزي للولايات المتحدة، وهو المسؤول عن تنفيذ السياسات النقدية التي تهدف إلى استقرار الأسعار وتعزيز النمو الاقتصادي. يعمل الاحتياطي على تنظيم كمية النقود المتداولة وأسعار الفائدة بواسطة أدوات عدة مثل عمليات السوق المفتوحة والاحتياطات النقدية، مما يُتيح له مرونة كبيرة في مواجهة الأزمات الاقتصادية وتعديل السياسات بما يتناسب مع الظروف الاقتصادية. كان معيار الذهب نظاماً نقودياً سابقاً تعتمد فيه قيمة العملة على كمية الذهب التي يملكها البلد أو نسبة معينة منها. بمعنى آخر، كان يُمكن تحويل العملة الورقية إلى ذهب بثبات محدد. يدعو مؤيدو العودة إلى معيار الذهب إلى التخلي عن مرونة الاحتياطي الفيدرالي في تعديل السياسات النقدية وفقاً لظروف السوق، حيث يرون أن هذه المرونة قد أدت إلى سياسات قد تكون محفوفة بالمخاطر، مثل الإفراط في طباعة النقود أو انخفاض أسعار الفائدة إلى مستويات منخفضة للغاية. من وجهة نظرهم، سيؤدي ربط العملة بالذهب إلى إعادة الثقة في النظام المالي، وسيجعل الحكومة ملزمة بسياسات نقدية أكثر انضباطاً ومستدامة.
على الرغم من المزايا النظرية التي يُشير إليها مؤيدو معيار الذهب، يحذر العديد من الاقتصاديين من أن الانتقال إلى هذا النظام يمكن أن يقلل من قدرة الحكومة على الاستجابة للظروف الاقتصادية الحرجة مثل الركود أو الأزمات المالية. فكثيراً ما يُشار إلى أن قيود معيار الذهب قد تُعيق قدرة الدولة على تطبيق سياسة نقدية توسعية لازمة لتخفيف آثار الأزمات الاقتصادية.
تفكيك البيروقراطية: حكومة أقل، سيطرة مركزية أكبر
هذه السياسة الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر، يقابلها أيضًا تفكيك أكثر جرأة في الجهاز الإداري للدولة. الإدارة الجديدة تشن “حرباً على الروتين”، عبر إلغاء مئات اللوائح في قطاعات النقل والطاقة والبيئة، وفصل آلاف الموظفين بالفعل. لهذا تحديدًا، تم تأسيس كيان جديد: وزارة كفاءة الحكومة ، بقيادة الملياردير الأمريكي إيلون ماسك. مهمتها هي تقليص البيروقراطية، تسريع الخصخصة، وتفكيك ما يسميه ترامب “الدولة العميقة”. من بين أولوياتها: إلغاء معايير السلامة البيئية، وتجميد المبادرات الاتحادية للرقابة، بل وإعادة هيكلة وكالات كاملة.
يحذر الخبراء من أن هذه السرعة قد تؤدي إلى كارثة على المدى الطويل. فغياب المعايير والرقابة قد يُضعف البنية الأساسية للدولة، ويهدد السلامة العامة. كما يحذرون من أن تكون هذه السياسات بمثابة تهديد لمبادئ الحكم الديمقراطي، إذ قد تؤدي إلى تقليل الشفافية والمساءلة وتشديد سلطة الجهاز التنفيذي على حساب الفروع الأخرى من الحكومة.
الصحة والهجرة: العودة إلى ما قبل الإصلاح
في ملف الرعاية الصحية، عادت محاولات إلغاء “أوباما كير” إلى الواجهة، بعد أن احتلت أيضًا مناقشة موسعة في الفترة الرئاسية الأولى لترمب. و “أوباما كير”، هو تشريع وُقِّع ليصبح قانونًا في عام 2010 من قِبَل الرئيس باراك أوباما، بهدف إصلاح نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. يهدف هذا القانون إلى توفير تأمين صحي شامل وبأسعار معقولة لمعظم المواطنين الأمريكيين، وتقليل عدد الأفراد غير المؤمن عليهم. كما أن خطط تقليص “ميديكيد”- وهو برنامج تأمين صحي مشترك بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات- المُقترحة، وقيود على الأدوية مرتفعة الثمن، قد تعني ببساطة تقليص الخدمات الأساسية لملايين المواطنين.
أما الهجرة، فهي على وشك الانقلاب جذرياً. يتم استكمال الجدار الحدودي، وبرامج الترحيل الجماعي تعود بقوة. والأخطر: برنامج تسجيل خاص للمهاجرين غير النظاميين، مستند إلى قانون قديم من خمسينيات القرن الماضي، ما أثار مخاوف حقوقية كبرى. كما أشار مسؤولون في جامعات أميركية أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تستخدم “مبررات غامضة” و”تكتيكات جديدة” لترحيل طلاب أجانب، وحتى الآن تم إلغاء تأشيرات أكثر من 400 طالب. أيضًا، حماية اللاجئين، وبرامج مثل “دي ايه سي ايه”، أصبحت في مهب الريح. في المقابل، تلوح أزمة في الأفق تهدد بتفكيك الأسر، ونقص حاد في قطاعات تعتمد على العمالة المهاجرة.
حلفاء جُدد وسياسة خارجية جديدة
على الساحة العالمية، تتصرف أميركا وكأنها لا تثق بأحد. حلف الناتو؟ عليه أن يدفع. الأمم المتحدة؟ غير فعالة. الشراكات الاقتصادية؟ خاضعة للمساومة. تم التخلي عن أوكرانيا وتُركت لتواجهه روسيا وحيدة مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي. على الجانب الآخر يُغازل ترامب كل من فلاديمير بوتين (موسكو)، وكيم جونغ أون (بيونج يانج). السياسة الأميركية الخارجية أصبحت صريحة ومباشرة، وتفتقر إلى الدبلوماسية. أيضًا، الحلفاء التقليديون مثل اليابان وكوريا الجنوبية يُضغط عليهم لتقديم تنازلات. وتُطرح أفكار مثيرة، من شراء غرينلاند مجدداً إلى توسيع النفوذ الأميركي في قناة بنما.
بلد عند مفترق طرق: الوحدة أو الانقسام؟