عام 1994 اندلعت الإبادة الجماعية في روندا، والتي قامت بها عرقية الهوتو ضد التوتسي، وراح ضحيتها ما يُقارب المليون شخص من عرقية التوتسي. لكن، اللافت للنظر أنه قبل تلك الإبادة الجماعية، كانت العلاقة بين الجماعات العرقية-على الرغم من أنها اتسمت بفترات من التوتر- إلا أنها تضمنت أيضًا حالات من الاندماج الاجتماعي، أبرزها من خلال الزيجات بين الأعراق. تاريخيًا، لم تكن هويات الهوتو والتوتسي دائمًا جامدة. كان الزواج المختلط حدثًا شائعًا نسبيًا. تشاركت هذه المجموعات ثقافة ولغة مشتركة، مما انعكس في طمس خطوط التقسيم في الحياة اليومية بصورة كبيرة.
تم التمهيد للإبادة الجماعية عبر أيديولوجية قوية للتطرف تم الترويج لها عبر وسائل الإعلام مثل إذاعة وتلفزيون الألف تل الحرة والمنشورات المتطرفة مثل مجلة كانغورا. لعبت هذه الدعاية دورًا حاسمًا في التحريض على الكراهية والعنف ضد عرقية التوتسي، وتصويرهم كعدو داخلي وتهديد لهيمنة الهوتو. كان العنصر الرئيس بشكل خاص في هذه الدعاية وهو استهداف العلاقات بين الأعراق. نُشر مانيفستو للهوتو بعنوان “وصايا الهوتو العشر” في مجلة كانغورا، أدانت الوصايا صراحةً أي رجل من الهوتو لديه امرأة من التوتسي كزوجة أو عشيقة أو سكرتيرة أو حتى صديقة، واصفة إياه بالخائن.
انهارت الزيجات مختلطة الأعراق بسرعة البرق، وسارع رجال التوتسي إما إلى قتل زوجاتهم وأطفالهم أو حتى تسليمهم لآخرين ليقتلونهم. سُلط الضوء بعد انتهاء المذبحة على هذه القضايا بالتحديد، شعر بعض رجال الهوتو بأنهم مضطرون لارتكاب العنف ضد زوجاتهم كعمل يائس للحفاظ على الذات أو كوسيلة لإظهار ولائهم الثابت لقضية الهوتو. إن فعل التخلي عن زوجاتهم وأطفالهم أو تسليمهن إلى القتلة، يمثل عمل خيانة مروع وفعل يُناقض كل الأعراف. في مقال على موقع الجزيرة، يروي قصة نكونديي ثاسيان، وهو رجل من الهوتو قتل زوج جارته التوتسي، خلال الإبادة الجماعية. كان ثاسيان والضحية جيرانًا وأصدقاء منذ الطفولة ويتشاركون كل شيء، بالرغم من ذلك قام بقتله.
كل هذا يدفعنا إلى السؤال: لماذا قد يتحول جارك اللطيف فجأة إلى عُنصري متطرف؟
يرتبط هذا السلوك بفقدان الهوية الفردية حيث ينغمس الفرد في أعراف الجماعة مُتَخَليًا عن مسؤوليته الفردية عن أفعاله، ويرى سلوكه نتيجةً لمعايير الجماعة وتوقعاتها. يؤدي فقدان الهوية الفردية بأفراد الحشود إلى فقدان الأفراد معايير السلوك العامة والتصرف بطريقة عنيفة وغير عقلانية.
يَمِيل الأفراد عادة إلى تحديد أنفسهم على أساس عضويتهم في مجموعات مثل الجنس، الدين، الطبقة الاجتماعية، وغيرها. في العادة، هذا التحديد يدفع المجموعات إلى مقارنة أنفسهم مع المجموعات الأخرى من نفس الفئة، وتؤدي إلى المحسوبية الجماعية والتحيز والنمطية، حيث يفضل الناس بشكل طبيعي أولئك الذين ينتمون إلى مجموعتهم الخاصة.
في فيلم “اثنا عشر رجلًا غاضبًا” الصادر عام 1957، من إخراج سيدني لوميت وبطولة هنري فوندا، تدور أحداث الفيلم حول هيئة محلفين مكوّنة من 12 رجلًا يُطلب منهم اتخاذ قرار بالإجماع حول إدانة أو براءة مراهق من أصول لاتينية متهم بقتل والده. الأدلة الظاهرية كلها تدينه، وكل الحاضرين يدخلون غرفة المداولة وهم مقتنعون بذنبه – باستثناء رجل واحد (يلعب دوره هنري فوندا)، يطلب ببساطة من الآخرين “أن يتناقشوا” قبل أن يصدروا حكمًا يودي بحياة إنسان (الحكم هو الإعدام). يكشف الفيلم عن عُنصر مُهم في الديناميكيات الاجتماعية: “سلطة الأغلبية وتكاسل الفرد عن التفكير”، منذ اللحظة الأولى، يتجه 11 عضوًا مباشرة إلى التصويت بالإدانة دون نقاش، ليس لأن الجميع مقتنع، لكن لميل الأفراد، ضمن الجماعة، إلى التبعية العقلية و”الاستسلام للجو العام”، وهو ما يُعرف في علم النفس بـ “تفكير الجماعة.” عند انخراط الفرد ضمن جماعة، قد يتخلى عن تفكيره النقدي ويوافق على رأي لا يؤمن به داخليًا.
وهذا يؤدي بدوره إلى “فك الارتباط الأخلاقي” أي “إيقاف الضمير.” إنه من أجل قضية نبيلة أو “الدفاع الوهمي عن الجماعة ضد الآخر”، عندما يشارك الناس في مجموعة، غالبًا ما يشعرون بمسؤولية شخصية أقل تجاه النتائج. فهم لا يتخذون القرارات بصورة فردية، بل تتخذها الجماعة، وبالتالي فالمسؤولية لا تقع عليهم بصورة فردية وشخصية. تُوفر الجماعة التبرير الأخلاقي للسلوك المستهجن، فهو سلوك يُبرره الدفاع عن الجماعة وقضيتها، أو ما يُمكن تسميته الصالح العام. بالإضافة لفك الارتباط الأخلاقي، فهناك ” إزاحة المسؤولية”، حيث يتصرف الناس بطرقٍ يعارضونها عادةً إذا ما قبلت سلطة شرعية مسؤولية عواقب ذلك السلوك. هنا يٌبرر الأفراد سلوكهم المستهجن، على إنه املاء من آخرين في موقع سلطة، وليس على أنه صادر عن أنفسهم. يُصاحب فك الارتباط الأخلاقي، المسايرة من أجل تأكيد الهوية. الرغبة في الانتماء قوية بشكل لا يصدق. لذلك، يجب على الأشخاص مسايرة الجماعة من أجل تأكيد الاستحقاق بالانتماء.
الصورة الأخطر: الهُوية الدينية والاستقطاب الديني
الاستقطاب والانتماء الديني، حين يتحولان من تجربة إيمانية فردية إلى مشروع جماعي قائم على التمايز والعداء، قد يكونان من أخطر صور ذوبان الهوية الفردية، وأكثرها قدرة على إنتاج العنف الرمزي والمادي تجاه الآخر. في المجتمعات التي تعاني من استقطاب ديني (كًثير من الدول العربية وبالأخص مصر)، يُطلب من الأفراد أن يُعرّفوا أنفسهم أولًا بانتمائهم الطائفي أو العقائدي، لا كذوات إنسانية مستقلة. تصبح “أنا” الفرد مغمورة داخل “نحن” الجماعة الدينية، وتُختزل الذات في وظيفة واحدة: أن تكون مُخلصًا للهوية الجمعية. هذا الذوبان يتم غالبًا تحت شعارات كبرى: الحق المُطلق، الدفاع عن الجماعة، الشهادة، الدفاع عن المقدّس، الخ. كما في فيلم “اثنا عشر رجلًا غاضبًا”، يُسحق صوت الضمير الفردي تمامًا حين يتصادم مع خطاب الأغلبية. في حالة الاستقطاب الديني، يُلغى الضمير الفردي لصالح نُصرة الدين. من هنا، فما يُفترض أن يكون جريمة جنائية تُعالج ضمن القانون، أو خلافًا اجتماعيًا يُحل بالتفاوض، يُعاد تأويله في سياق صراع طائفي أو ديني، ليُغذّي خطاب العداء والكراهية، ويُستخدم لتبرير الهيمنة أو الانتقام. يحدث هذا التأويل والتطوير عبر خطوات متتالية.
حينما تحدث جريمة قتل، أو اعتداء، أو حتى شجار، في بيئة مشحونة طائفيًا، فإن هوية الجاني والضحية تصبح هي المحور، لا تفاصيل الحادث. فإذا كان الجاني من طائفة والضحية من أخرى، يُعاد سرد الحدث بوصفه “اعتداءً طائفيًا”، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية، ويتم اعتباره “اعتداءً على أبناء الطائفة” أو “محاولة إذلال للهوية.” تحديدًا في قضية الطفل ياسين كًشفت الكثير من التعليقات والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه السردية. في أحد التعليقات تقول إحداهن: “مش دول (النصارى) اللي يِعَلِمُوا علينا”، وفي تعليق آخر لنهاد قُطب -المرأة مثيرة الجدل- “فاللهم بحق سورة ياسين انصرنا كما نصر الإسلام.” يُصاحب هذا، توظيف لوسائل الاعلام، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي في تصعيد هذه الأحداث. تُبرز الحدث بلغة عاطفية وانفعالية، حيث يتكرّر الحديث عن “الاستهداف”، و”الصمت العالمي”، و”الخطر على الهوية.” هنا، تتحول الجريمة الجنائية إلى رمز تَعبَوي يُستخدم في الشحن الطائفي والتحريض.
النتيجة؟
في سياق هذه الظروف، ومثلما هو مُعتاد، من الجائز جدًا أن تضيع الحقيقة، وتَغيب العدالة. الخلافات والجرائم حين تُفكَّك ضمن خطاب عقلاني، تُسهم في إنتاج العدالة والحقيقة. لكن حين تُقرأ عبر عدسة الانتماء الديني، تتحوّل إلى وقود للصراع، وتَفقِد كل من المجتمعات والعدالة قدرتها في كثير من الأحيان على التفريق بين الجاني الحقيقي وبين الشبح الطائفي الذي يُصنع من حوله.
والمخرج الوحيد من هذا التورّط هو تَفكيك الهُويات الجمعية لصالح التفكير العقلاني المدني، حيث يُصبح الدين والجنس والعرق هي هُويات فردية لا توجهات جَمْعِية. كذلك، بناء ثقافة مدنية قانونية، تفصل بين الفعل الفردي والهويات الجمعية، وتُعيد لكل جريمة معناها الأصلي.