"يجب عليك أن تتخلى عن كل شيء، نيو. الخوف، الشك، وعدم التصديق. حرر عقلك." (مورفيوس، ذا ماتريكس 1999)
"العالم
يتغير بمثالِك، لا برأيك." (باولو كويلهو، حساب منصة اكس الشخصي 2019)
ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، شاب غير مسيحي، دائمًا ما يقوم بالاتصال بأحد الخدام المسيحيين أو القسوس أو الكهنة، للسؤال عن أمر في المسيحية، والهدف أن يُؤخذ الشخص على حين غرة فيعجز عن الإجابة، ويَعتبر المحاور أن هذا نصرًا له وكشف عن ضعف وفساد الإيمان المسيحي. تكشف هذه اللقاءات -ومحتويات تلك القناة ومثيلاتها بشكل عام- عن الحالة الذهنية لهذه النوعية من المحاورين، والتي يُمكن تفكيك بعض سماتها هكذا:
1. العقلية الذرية: أزمة التعامل مع الرؤى الشاملة
عرَّف المستشرق الإسكتلندي هاميلتون جيب
(1895-1971) مفهوم "العقل الذري atomistic mind" بأنه عقل
يتسم بالتجزئة والتركيز على الجزئيات الصغيرة مع عجز واضح عن الرؤية الشاملة أو
بناء نظام مُتكامل. هذه العقلية تعجز عن الربط بين التفاصيل في إطار أي منظومة متكاملة،
مما يؤدي إلى إنتاج تفكير مفكك غير قادر على فهم السياقات أو الأفكار الكبرى. ويصف
المفكر المصري السيد يسين (1933-2017) هذه العقلية بأنها "عقل ساكن" تغلغلت
فيه حالة الجمود، وهو عقل لا يعرف الحركة أو التطور، بل يظل أسيرًا لنمطية فكرية مغلقة
لا تقبل النقد أو التغيير. في المحاورات التي يقدمها مثل هؤلاء، يتضح عدم القدرة
على فهم التعريفات والمفاهيم المسيحية عن أمور مثل "الوحي" و"الثالوث"
و"حلول الروح القدس"، والإصرار على فهم المسيحية من خلال مفاهيم غير
مسيحية!
يُمثلُ هذا العقل الذري نموذجًا لحال المجتمعات
التي تفشل في مواجهة تعقيدات العالم الحديث، حيث تقتضي هذه التحديات تفكيرًا شموليًا
يمكنه الربط بين الأبعاد المختلفة للواقع. ومع ذلك، فإن هذه العقلية في محدودية
رؤيتها للأمور، تركز على التفاصيل وتفشل في تقديم حلول متكاملة. وهذا الجمود الفكري
لا ينعكس فقط على مستوى التفكير الفردي، بل هو ممتد أيضًا إلى المجتمع وأصابه
بالعجز الفكري والثقافي، وأعاقه عن التقدم والتطور.
تتصف هذه العقلية بنزعة قمعية تمنعها من قبول
وجود "آخر" مختلف، سواء في الرأي أو في المنهج. إنها عقلية ترى في التعددية
الفكرية تهديدًا، وترفض الاعتراف بحق الآخرين في تفسير النصوص وفهمها بالطريقة التي
تناسبهم. هذا النوع من التفكير يُنتج مجتمعات مغلقة ترفض التنوع وتدفع باتجاه وحدة
فكرية قسرية تُلغي التعددية بطبيعتها. وهو ما نراه في إصرار هذا المحاور وغيره على
رفض تفسير الآخر لنصوصه ومصطلحاته وإصرارهم على أن فهمهم الخاص هو الصحيح.
غياب قبول الآخر يتسبب في أزمات اجتماعية وثقافية،
حيث يصبح الحوار والتعايش مستحيلين. عندما تُسيطر هذه العقلية على الخطاب العام، تتحول
الأفكار إلى أدوات للقمع، ويصبح الاختلاف مسوغًا للعداوة والعنف بدلاً من كونه فرصة
للتعلم والنمو. وفي ظل هذا السياق، يفقد المجتمع القدرة على الإبداع أو التطور، إذ
تُسجن العقول في قوالب جاهزة تمنعها من التقدم.
3. الشعور بالتهديد: الحالة الداعشية كنموذج
يمثل الشعور بالتهديد أحد أبرز مظاهر "الحالة
الداعشية"، وهي النموذج الحديث للتطرف الأيديولوجي حيث تتداخل أزمة الهوية مع
استخدام العنف غير المبرر. في هذا السياق، يُصبح الشعور بالتهديد وجوديًا، مما يؤدي
إلى رؤية الآخر كعدو دائم يجب القضاء عليه، سواء من خلال خطاب عدائي أو عبر أعمال عنف
فعلية. تذكرنا هذه الحالة بعبارة "الجحيم
هو الآخر" (L'enfer,
c'est les autres) وهي اقتباس
شهير من مسرحية لا مخرج (Huis
Clos) للفيلسوف والكاتب الفرنسي جان
بول سارتر. في سياق المسرحية، يظهر الجحيم ليس كعذاب جسدي أو مكان تقليدي كما في التصورات
الدينية، بل كحالة نفسية ومعنوية ناتجة عن نظرة الآخرين وحكمهم علينا. سارتر يعبر عن
فكرة أن "الآخرين" يمكن أن يكونوا مصدرًا للقلق والمعاناة بسبب إدراكنا أنهم
يقيّموننا ويحكمون علينا. يصبح وجود الآخر مرآة تعكس عيوبنا ومخاوفنا الداخلية، مما
يخلق حالة من التوتر النفسي المستمر. وهو ما يمكن رؤيته بجلاء في خطاب أيديولوجيات
التطرف بوجه عام، وفي التعبيرات الجسدية واللغوية للمحاور بالأخص عندما يسقط في
الفخ الذي نصبه للآخرين.
تكشف هذه الحالة الداعشية أيضًا عن أزمة هوية
عميقة، حيث يشعر الأفراد والجماعات بضعف داخلي يدفعهم إلى البحث عن أعداء خارجيين يُبررون
من خلالهم هذا الضعف. وبدلاً من مواجهة أزمات الهوية بشكل نقدي وبنّاء، يتم اللجوء
إلى استراتيجيات عدائية تُحوِّل كل اختلاف إلى تهديد وجودي. وهو ما نراه في
المنشورات المختلفة على تلك المنصات، فهي تُعبّر عن خطاب يشعر بالتهديد والخوف
والعجز، وبالتالي يخلق لنفسه عدو وهمي، يَدَّعي الانتصار عليه في معارك حوارية
وهمية.
تعكس التفاهة نمطًا فكريًا يتسم بالسطحية والاهتمام
بالقشور على حساب الجوهر. في هذا السياق، تكشف الموضوعات التي تطرحها مثل هذه
القنوات عن عقل تافهة يعجز عن إدراك القضايا الجوهرية التي تتطلب عمقًا فكريًا وتحليلًا
منهجيًا.
يعجز الخطاب التافه أيضًا عن التفكيك لأنه قائم
بطبيعته على السطحية والاهتمام بالقشور، مما يجعله غير مؤهل للدخول في العمق التحليلي
اللازم لفهم الظواهر المركبة. التفكيك يتطلب أدوات فكرية تتسم بالقدرة على طرح الأسئلة
الجوهرية وتحليل الأبعاد المختلفة للنصوص أو الخطابات أو الأحداث الاجتماعية، وهو ما
يتناقض تمامًا مع طبيعة الخطاب التافهة. وما هو رأيناه في عجز هذا المحاور وغيره عن
إدراك فروق المعاني بين المصطلحات في لغاتها الأصلية السريانية واليونانية، ولغة
النقل العربية.
التفاهة ليست مجرد ظاهرة فردية، بل قد تحولت
إلى ثقافة عامة وهيمنت على الفضاء الاجتماعي والثقافي؛ وبالتالي فهذه المنصات هي
مجرد منتج جانبي/نتاج ثانوي للحالة المجتمعية العامة.
قد ينتج كل ما ذكرنا ما نُسميه أوهام التفرد
والغطرسة، حيث يعتقد الفرد أو الجماعة أن أيديولوجياتهم هي مركز العالم، وهي
الأيديولوجيات الوحيدة التي تمتلك الحقيقة المطلقة وكل ما هو غيرها هو أدنى وأقل
ولا يستحق الوجود، بل يستحق القمع والمحو (مثلما رأينا في الأيديولوجيات الفاشية
والنازية). يؤدي هذا إلى تشكيل هوية جماعية مغلقة تتسم بالانعزال والعدائية تجاه كل
ما هو خارج هذه الهوية. من هنا، تتزايد مشاعر التفوق والسلطة (وهو ما نرى ملامح
منه في احتفالات الانتصار المدوية بتحول فرد ما عن المسيحية، أو التفوق في مناظرة
زائفة)، وتصبح الأيديولوجية المستحوذة هي المعيار الوحيد الذي يُقاس به كل شيء آخر.
أما الغطرسة، فتمثل النموذج السلوكي المرتبط بتلك الأوهام. حيث إن الغطرسة لا تقتصر
فقط على الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، بل تمتد إلى فرض السيطرة على الآخرين. في
هذه الحالة، يصبح الآخرون مجرد أدوات ينبغي استغلالها واستهدافها يمكن استخدامها لتحقيق
أهداف الأيديولوجيا السائدة.
يؤدي هذا أيضًا إلى الوقوع في دائرة مُفرغة
(متاهات الوهم) حيث إن هذا التصور وفشله يؤدي الاعتقاد بوجود مؤامرات خارجية
لتدمير هذه الأيديولوجيات (مثلما نرى في الاتهامات بالتبشير والتنصير والمؤامرات الموجودة
على مثل هذه المنصات). وبالتالي اختلاق أزمات مستمرة لمحاربة أي فكر أو جماعة تُعتبر
"دخيلة" أو "أدنى"، وهو ما يرتبط بنمط تفكير يقوم على القطع التام
مع كل ما هو آخر، وإلغاء أي فرص للتعايش أو التفاعل بين الثقافات المختلفة. يصبح
"الآخر" في هذه السياقات ليس مجرد شخص مختلف، بل تهديدًا يجب القضاء عليه
بشكل نهائي.