عن العقد الخامس من العمر (مرثاة)

 

(إهداء إلى رفيقي السعي الوجودي ع. ع. وإ. إ.)

فصل أول

لا أعلم لماذا، حين نتجاوز عتبة الأربعين من العمر، نبدأ في التأمل، كأنها لحظة فارقة تتجلى فيها تساؤلاتنا الوجودية بأشد صورها، وأعمق معانيها:

ما الحياة؟ هل هي مجرد تراكم لأيام تمضي، أم أنها نسيج خفيّ من اللحظات المتشابكة التي لا تُفهم إلا بعد انقضائها؟

وما المعنى؟ أهو شيء يُكتشف، أم يُصنع، أم أنه يظل هاربًا كلما اقتربنا منه؟ وما المسعى؟ أيكمن في تحقيق الإرث، أم في شيء لا تدركه إلا الأرواح التي أنهكتها الرحلة؟

وما الحب؟ هل هو دفقة عاطفية عابرة، أم رابطة خالدة تمتد عبر الزمن والكينونة؟

وما الوجود؟ أهو مجرد حضور مادي، أم أنه رقصة خفية بين الروح والزمان؟ وما الإنسان؟ كائن تائه في متاهة المعاني، أم مشروع دائم الاكتمال، لا يعرف حقيقته إلا بعد أن يفقد القدرة على السؤال؟

إن الذين اعتادوا الحياة بسطحيةٍ يملكون إجاباتً جاهزةً، مبسّطة، تبدو مقنعة فقط لمن لا يسأل كثيرًا. أما أولئك الذين قرروا أن يسبروا أغوار الحياة والمعنى، فيدركون أن كل سؤال يفتح بابًا لسؤال أعمق، وكل يقين يتلاشى أمام موجات من الشك والتأمل.

عقد الأربعين ليست مجرد رقم، بل هو مرآة تعكس ملامح العمر كما لم تُرَ من قبل، وتطرح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل اجتزنا منتصف العمر فعلًا، أم أننا نعيش في وهم الحسابات الزمنية؟ هل ما تبقى أكثر مما مضى، أم أن الأفق يضيق دون أن ندرك؟ لا إجابات حاسمة، ولا خريطة واضحة، ولا سبيل للعودة إلى بساطة البدايات، حيث كانت الحياة تبدو واضحة المعالم، خالية من أعباء الإدراك. لا آلة زمن تستدرك بها اختياراتك، لا مفر من مقدرات صنعتها يديك بحماقة، لا فرص جديدة، ولا آمال مختبئة.

تَدّعِي السرديات اللاهوتية والفلسفية الكبرى أنها تقدم الإجابات. لكنها، مهما بلغت من العمق، تظل بعيدة عن حقيقة التجربة الفردية. فالإجابات الحقيقية لا تُستلهم، ولا تُستعار، بل تتشكل في رحم الذات، تنمو مع التجربة، وتتشكل مع لحظات الفرح والانكسار، مع الانتصارات والهزائم، مع الأحلام المتحققة وتلك التي خذلتنا، مع حقيقة الفشل الدائم والمستمر.

كل منا يسير في رحلة بحثه الخاصة، حيث تكون الإجابة الوحيدة الممكنة هي تلك التي يكتشفها بنفسه. ولا أحد، أبدًا، يستطيع أن يمنحك إجابة نهائية سوى أنت.

أترى حقًا أن أحدًا قد يسير معك في هذه الرحلة الشاقة؟، رحلة البحث عن الإجابات التي لا تُمنح، بل تُنتزع من ظلال المعنى والعدم؟ أنت واهم، غارق في سراب التشارك. لا أحد يستطيع أن يخوض معك أسئلتك المعقدة، ولا أحد يقدر على احتمال صراعاتك التي تتناسل بلا نهاية.

الكل يخذلك، يبتعد، يهرب، يعتقد أنه يمنحك الإجابة. وهكذا، تجد نفسك وحيدًا، أنت ووجودك المرهق، أنت وعبثية اللحظة، حيث الزمن لا يمنحك يقينًا، بل يتركك تتخبط بين الاحتمالات، بين الرغبة في الفهم والخوف مما قد يعنيه الفهم حقًا. لا يمكن أن تلوم أحد، ولا يجب أن تفعل. فلكل منا مسعاه الخاص.

تُترك وحدك، لأن المسير إلى الأعماق طريقٌ لا يتسع إلا لخطاك. فقد أدمنت السير في الأنفاق المظلمة، أصبحت أسيرًا لتعقيداتك التي اخترتها لنفسك بإرادتك. لا أحد يُلام إلا أنت. قد تكون الرحلة وحيدة، وستبقى كذلك، لكن هذا كأسك الذي عليك أن تتجرعه وحدك، إلى أن يحين وقتك.

فصل ثان

في رواية دون كيخوتي لميجيل دي ثيربانتس، يبحر الفارس العجوز في رحلته بحثًا عن معنى يتجاوز الواقع المألوف، مُتسَلحًا بأوهامه وأحلامه عن البطولة. ينطلق بقلب ممتلئ بالإيمان بقيم الفروسية، غير آبه بضحكات السخرية أو بتُهم الجنون، ينطلق مُعتقدًا أنه بطل. إنه فارس في زمن لم يعد يؤمن بالفرسان، رجل يصرّ على أن يمنح للعالم صورة أكثر نبلاً مما هو عليه، حتى لو كانت هذه الصورة مبنية على الخيال وحده. لكنه، في نهاية المطاف، يكتشف أن رحلته كانت أكثر من مجرد قتال طواحين الهواء، بل كانت رحلة في أعماق ذاته، بين الحقيقة والوهم، بين العزلة والبحث عن إجابة لا يمنحها أحد سوى التجربة نفسها.

عند بلوغ وتجاوز الأربعين، نكتشف، متأخرين، أننا كنا، في الحقيقة، كدون كيخوتي: نسلك طرقًا ظننا أنها ستقودنا إلى المجد أو الحكمة، نغرق في مغامرات ظننا أنها ستجعلنا أبطالًا، نتمسك بأحلامٍ اعتقدنا أنها ستمنحنا معنى يتجاوز السطحية التي يرضى بها الآخرون. لكننا في لحظة إدراك، نشعر كما شعر الفارس العجوز، أن ما اعتقدناه انتصارًا قد لا يكون سوى مطاردة سراب، وأن ما حسبناه نبلًا قد يكون مجرد أوهام صنعناها لأنفسنا لنحتمي بها من قسوة الواقع.

في النهاية يواجه دون كيخوتي خيبة إدراكه أن العالم ليس كما تخيله، وأن واقعه كان زيفًا بائسًا، خواءً؛ وخذلانًا. لكنه، رغم ذلك، يعيش رحلته حتى نهايتها، غير آسف على أوهامه، لأنها كانت طريقه إلى الحقيقة، بينما يموت حزينًا حينما يعود إلى رشده ليواجه واقع العالم.

فهل كان جنونه هروبًا من واقع بارد، أم شجاعة في البحث عن معنى لا يفهمه إلا القليل؟ ربما الإجابة ليست عند أحد، بل في الرحلة نفسها، كما هو الحال في رحلة كل من يقف وحيدًا عند حافة الوجود، متأملًا في صحراء الزمن التي لا تنتهي.

فصل ثالث

عليك أن تختار الرحيل...

لا مفر،

لم يَعُد الأمر كما كان...

فالأرض ضاقت،

والحلم صار ظلًّا واهنًا يتلاشى مع هبّات النسيم،

لم يعد في العمر متّسعٌ للغيوم،

ولا للنور الذي لن يجيء،

آن أوان الواقع،

حيث لا مأوى للأحلام،

ولا ملاذ للأمنيات الكسيرة.

كل شيء من حولك يوشك أن ينقضّ عليك،

الخذلان صديقك الوفي،

والأبواب التي طرقتها لم تُفتح،

والوجوه التي أحببتَها عبرت دون أن تلتفت،

أطفالك ينادونك في الغياب،

رفاقك يغرقون وأنت بلا قارب،

ومن تحب يودّعك بنظرات لا تعرف الفرح،

كل شيء يشي بانطفاء محتوم...

عليك أن تختار الرحيل...

لا مفر،

بدايات باردة بلا دفء الأحلام،

أن تقود عربة أجرة في شوارع نيويورك المزدحمة،

أو نادلًا يسكب الخمر في زوايا الحانات المعتمة لحي هارلم،

خيرٌ من أن تُصلب على خشبة الأوهام،

أن تمضي في درب لا يعرف الخيال،

خيرٌ من أن تظلّ عالقًا بين السراب واللاشيء.

لا مفر،

مصارعة الطواحين عبث،

فهي عملاقةٌ، جبّارة، لا تكترث بك.

ستدهسك إن تماديتَ في العناد،

ولن يذكرك أحد،

مؤقتًا؟ ربما...

لحظاتٌ من عاطفةٍ زائفة،

كمشهد وداعٍ مؤثرٍ في أفلام الرسوم المتحركة...

ثم يطويك النسيان.

لا تخدع نفسك...

ارحل،

لا مفر،

لكن... ما أبهى التراجيديا حين يتنكّر لك الرحيل،

ويتركك هنا،

تطارد أطياف حلم،

تصارع أجنحة الريح،

ثم تفشل...

وتفشل...

وتفشل...

يرحلون جميعًا، واحدًا تلو الآخر،

وتبقى أنت،

عالقًا بين الرحيل والبقاء،

بلا ظلّ،

بلا حياة...

فصل رابع

في سرديات منتصف العمر،

نسأل:

ما الذي نفعله هنا حقًا؟!

سينتهي الكون يومًا ما

أنا، وأنت سننتهي الي غير رجعة

كل الأحلام التي رافقتنا، وكل العشق الذي احتضناه،

كل ما تخيلنا أن نكون لن يعد موجودًا

كل صراعٍ خُضناه،

وكل محاولات يائسة لكي "نكون"،

كله سينتهي إلى غير رجعة.

ذلك الجرافيتي البائس

القابع على جدار متصدع في ركن بارد من ميدان التحرير،

قد يحمل بين طياته تلك الذكريات،

وتلك الحانة المظلمة ومقارعة الكؤوس

تلك القبلة الدافئة على شفاة العاهرة

لن تعود

الليالي القمرية التي تحتضن العاشقين

لن توجد

فلا قمر ولا نجوم

ولا نسمات باردة تداعب ارتباك قلب يسقط في الحب

أنا وأنت سننتهي الي غير رجعة

لا مفر من مصير محتوم،

في ذلك اليوم، ربما لن نشعر بشيء

لن ندرك أننا لم نعد موجودين،

ولن نعرف قط لماذا وجدنا

لازالت كلمات المُمثل الأمريكي وودي الآن تداعب أذني

ربما هي تدفع لليأس والانتحار...

تخبرني صديقتي أنها تًريد أن تكتب عن إنهاء حياتها

أجيبها
أن تنتحر هذا يعني حتما أن تعلن أن الحياة قد انتصرت في لعبة الصراع،

ويعني أنك فشلت أيضا،

مثل حصان مضمار سباق خاسر...

لم يتجرأ على الجري

لأن فقط، رصاصة الانطلاق قد أفزعته،

وهذا مشين أكثر من أي شيء

فقط سقط ضحية خوفه.

أن تعيش وحيدا حزينا متألما هو شيء في حد ذاته ممجد،

فأنت على الأقل لانزال في حلبة الصراع،

أنت لازلت تتحدى الحياة في كل ما تفعله بك.

وموتك المحتم دون انتحار يعني أنك انتصرت ولم تستسلم.

أن تتخلص من حياتك هو إغراء مسالم،

لكنه في الحقيقة استسلام وقح أمام هجمات الحياة.

عليك إذا أن تستمر حتى النهاية

إلى أن يختفي الكون أو تنتهي أنت.

فصل أخير

في أحد الأفلام الأمريكية، يسأل أحدهم البطل إيثان كوبيك (تارون إيغرتون) عن سبب تخليه عن حلمه بالالتحاق بسلك الشرطة. يجيبه قائلاً: "للأحلام تاريخ صلاحية" (Dreams have expiration dates).

نحن لا نُدرِك هذه الحقيقة إلا متأخرًا،

حينما نجد أنفسنا على أعتاب منتصف العمر،

أن كل الأحلام قد انتهت صلاحيتها،

فلا يبقى أمامك سوى الاستسلام لمقدراتك...

لا تحاول أن تكون شخصًا آخر، فلن تكونه أبدًا...

قدرك أن تكون لا شيء... لا أحد...

ستموت في زاوية منعزلة،

سيحزنون عليك قليلًا، يبكونك،

ينثرون القصائد عنك ليومين على مواقع التواصل،

ثم ينسونك...

الرجال سيعودون إلى العمل،

النساء إلى التململ،

والأطفال إلى اللعب والبكاء...

هكذا أنت، وهكذا نحن جميعًا...

هذه هي أقدارك...

كنت تظن أنك قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أحلامك،

ها قد أوشكت أن تصير واقعًا...

لكن الحياة تطعنك الطعنة الأخيرة،

تسحقك،

تفتّت عظامك إلى ألف شظية وشظية...

وحين تخبرهم بذلك، يندهشون...

يضحكون، يباركون،

يصافحك الرجال، وتزغرد النساء...

يا للروعة!

لقد أصبحت واحدًا منهم، أو هكذا يظنون...

لقد انتصرت أقدارك،

لكنهم لن يفهموك...

كم كنت أحمق!

أظننت حقًا أنك قادر على العبث بمقاديرك؟

أن تحطمها؟ أن تتجاوزها؟

ها قد أجبرتك الحياة على الانكسار،

على الانزواء...

على أن تصير شذرات عدمية لرجل بائس...

هذه كانت مرثاة العقد الخامس من العمر.

إرسال تعليق

أحدث أقدم