أثارت العاصفة شبه الثلجية (إن جاز التعبير) والتي ضربت
الإسكندرية من عدة أيام، الحديث مرة أخرى حول احتمالية غرق المدينة. وهو أول قضية
تقفز إلى السطح كلما اقتربت من الإسكندرية كارثة طبيعية. تم فحص هذا الموضوع من
قِبل عدة دراسات في العقود الماضية. أحدث دراسة نُشرت كانت في فبراير 2025. ويستند هذا الملخص إلى تلك
الدراسة والتي نُشرت في مجلة Earth’s Future بعنوان “انهيارات المباني المتصاعدة على سواحل جنوب
البحر الأبيض المتوسط: المحركات المناخية المائية وتدابير التكيف في المشهد” لمجموعة
من الباحثين من ضمنهم العالم المصري د. عصام حجي، والتي تجمع بين عقود من بيانات
الشواطئ، وتحليل التربة بالنظائر، وسجلات انهيار المباني لتسليط الضوء على الأزمة
التي تتكشف على ساحل الإسكندرية.
Fouad, Sara S., Essam Heggy, Oula Amrouni,
Abderraouf Hzami, Steffen Nijhuis, Nesma Mohamed, Ibrahim H. Saleh, Seifeddine
Jomaa, Yasser Elsheshtawy, and Udo Weilacher. “Soaring Building Collapses in
Southern Mediterranean Coasts: Hydroclimatic Drivers & Adaptive Landscape
Mitigations.” Earth’s Future 13, no. 2 (2025). https://doi.org/10.1029/2024EF004883.
على طول شواطئ هذه المدينة الساحلية العريقة -الإسكندرية- التي تمتد لآلاف السنين، يتصاعد تهديد صامت. ففي العقود الأخيرة، ازداد معدل انهيار المباني على امتداد ساحل الإسكندرية بشكل كبير، مما صدم السكان ودفع السلطات إلى البحث عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك. بينما كان يمكن اعتقاد أن تفتت الواجهات وانهيار الأسطح أمر طبيعي نتيجة قدم بعض المباني، كشفت تحقيقات حديثة عن وجود سبب أكثر خبثًا: تغير العلاقة بين البحر والأرض التي تحتضنها، والمباني التي ترتكز عليها.
تراجع
الشاطئ: حالة طوارئ متسارعة
باستخدام
خرائط تاريخية من عام 1887 وصور الأقمار الصناعية من عام 2021، اكتشف الباحثون أن
ساحل الإسكندرية — الذي ظل مستقرًا نسبيًا
لأكثر من قرن — بدأ يتآكل بوتيرة مقلقة
منذ عام 2001. ففي حين كان الشاطئ يتحرك بمعدل بضع سنتيمترات سنويًا، بات الآن
يتراجع بمتوسط 3.64 مترًا
سنويًا،
وفي أكثر القطاعات تضررًا يصل إلى 31 مترًا سنويًا. هذا التآكل السريع ليس
ظاهرة بمعزل عن عوامل أخرى؛ بل هو نتيجة لتراجع رواسب النيل منذ بناء السد العالي
في الستينيات (الذي حرم الرمال الساحلية من التعويض الطبيعي)، وسوء إدارة دفاعات
الشاطئ، وتكرار العواصف البحرية التي تدفع مياه البحر إلى أعماق الساحل.
مع تراجع
الشاطئ، تختفي الحواجز الرملية التي كانت تحمي الأساسات، فيُتاح للأمواج أن تضرب
مبانٍ كانت تبنى على أرض كانت تعتبر صلبة. في أحياء مثل غرب الإسكندرية والمنتزه
(شرق الإسكندرية)، حيث تم تسجيل أعلى معدلات التآكل، تقدمت مياه البحر أحيانًا
لمسافات كبيرة نحو اليابسة، مهددة ليس فقط المنشآت الخرسانية الحديثة، بل أيضًا
المباني الحجرية القديمة التي لم تُبَنَّ أساساتها لتحمُّل ظروف تشبه حوض
الاستحمام.
تسلل
مياه البحر والانهيارات المتصاعدة
تآكل
الشاطئ هو جزء فقط من القصة. فعندما تضرب وتحفر الأمواج في البر، تتسرب مياه البحر
المالحة إلى الطبقات الجوفية. لم تعد الأساسات المدعومة بمياه جوفية عذبة قوية، بل
باتت قائمة فوق طبقات مملوءة بمياه مالحة ضارة. أظهرت صور الأقمار الصناعية
والمسوح الميدانية من عام 2001 إلى عام 2021 قفزة عشرية في حوادث الانهيار: من بضع
حالات في أوائل الألفينيات إلى أكثر من 117 حالة بين 2013 و2015. وبشكل إجمالي، انهارت
287 مبنى ساحلي بين 2014 و2020، مما أسفر عن 86 وفاة وتشريد مئات العائلات.
تتركز
غالبية هذه الانهيارات ضمن 2 كيلومتر من الشاطئ، مع بؤر في
منطقتي غرب المدينة والجمرك، وهي المناطق التي تتجاوز فيها معدلات التآكل 5 أمتار سنويًا وترتفع فيها ملوحة
المياه الجوفية. حتى المباني التي اجتازت فحوصات السلامة الأولية كانت عرضة للخطر؛
إذ لم يكن العيب في التصميم وحده، بل كان هناك هجوم بيئي من الأسفل يقوّض
استقرارها.
قياس
عدم استقرار الأرض: “اختبار الإجهاد” بنظير البريليوم-7 (⁷Be)
لقياس
مدى تأكل التربة، لجأ الباحثون إلى أداة غير متوقعة: النظير الكوني البريليوم-7 (⁷Be). عن طريق أخذ عينات من
طبقات التربة حتى عمق 25 سنتيمترًا في ستة أحياء بمدينة الإسكندرية، قاسوا مدى
اختراق ⁷Be في
التربة، وهو دليل واضح على مدى تفتت أو “استرخاء” الأرض. سجّلت الأحياء التي بلغ
فيها عمق الاسترخاء 6–7 سنتيمترات (وخاصة غرب المدينة
ووسطها) أعلى أعداد للانهيارات. وبالمقابل، سجّلت الأحياء مثل العامرية والمنتزه
عمق استرخاء يقارب 2 سنتيمتر، ما جعلها أفضل وضعًا
قليلًا، رغم أنها لم تكن بمعزل عن الخطر. أشارت مستويات ⁷Be المرتفعة إلى أن
التربة التي كانت يومًا متماسكة أصبحت أكثر رخاوة وقابلة للانضغاط، ما يجعلها عرضة
للفشل المفاجئ تحت أثقال المباني.
كشف “اختبار
الإجهاد” عن تدرج حاد: فكلما اقتربنا من الشاطئ الذي يتآكل بسرعة، كلما بدت الأرض
وكأنها إسفنجة غير قادرة على دعم وزن المباني الجديدة، ولا حتى الصمود أمام هجوم
مياه البحر المتسللة عند العواصف.
مدينة
على شفير الهاوية: أكثر من 7,000 مبنى في خطر
وأكثر ما
يثير القلق هو رصد وجود 7,000 مبنى في منطقة شديدة
التعرض—وهي أكبر تركيز من هذا
النوع في حوض البحر الأبيض المتوسط. من شقق منخفضة الطابقين بُنيت في خمسينيات القرن
الماضي إلى مجمعات متوسطة الارتفاع شُيّدت في العقد الأخير، يواجه كل هيكل كان يُعتقد
أنه صامد خطر الانهيار المفاجئ. الأحياء العشوائية—حيث غالبًا ما يُتجاوز فيها تطبيق
معايير البناء الصارمة—تتعرض بشكل خاص للخطر،
لكن حتى المباني المصممة هندسيًا تعاني مشكلات متشابهة عندما تتأسس على مياه جوفية
مالحة.
يقدّر
المسؤولون المحليون أن نحو 40% من جميع حالات انهيار المباني في الإسكندرية خلال
العقدين الماضيين وقعت في وسط المدينة (وسط) وشِرق (شرق) الأحياء—مناطق يعيش فيها آلاف السكان
في شقق قديمة لا تزيد عن أمتار قليلة فوق مستوى سطح البحر التاريخي. دون تدخل سريع،
ستصبح بعض الأحياء كلها مهددة بالإخلاء القسري أو الهجران التام.
التداعيات:
أكثر من مجرد طوب وخرسانة منهارة
لا تُعدّ
موجة الانهيارات سوى عَرَض لفشل أعمق وأوسع:
- تراكم المشكلات في البُنى التحتية: لا تواكب شبكات
الصرف الصحي والمياه الجوفية المتقادمة في الإسكندرية وتيرة ارتفاع منسوب
المياه الجوفية. عندما تشبع المياه المالحة فراغات التربة، تفقد الأساسات
الدعم الذي كانت يتمتع به مباني المدينة لسنوات.
- ضغط اقتصادي: يعتبر إصلاح أو تدعيم
الأساسات المهددة مكلفًا للغاية. كثير من أصحاب المنازل لا يملكون القدرة على
ذلك، فيتركون مبانيهم مُعرضة للخطر مما يؤدي إلى تفاقم حالة الانحدار الحضري.
- فقدان ثقافي: تضم الإسكندرية مبانٍ يعود
تاريخها إلى العهد العثماني وفيلات حجرية من طرز معمارية تعود إلى عشرينيات
القرن الماضي. كل انهيار يمحو جزءًا من هوية المدينة ويحول التاريخ الحي إلى
ركام.
- أمن عام: تصاعدت الحالات الطبية
الناجمة عن الانهيارات المفاجئة، سواء نتيجة سقوط أجزائها أو انهيار طوابق
فوق أصحابها. غالبًا ما يصل رجال الإسعاف بعد فوات الأوان، في ظل صعوبة تطبيق
أوامر الإخلاء في أحياء مكتظة.
- انعكاسات إقليمية: بكونها ثاني أكبر مدينة في
مصر وميناءً حيويًا على البحر المتوسط، فإن هشاشة الإسكندرية تهدد خطوط الشحن
العابرة لقناة السويس والاقتصاد الإقليمي الأوسع. أي إغلاق أو تقليص لقدرة
الميناء سيؤثر في سلاسل الإمداد العالمية.
ما
الذي يُعمل الآن: تدابير للتخفيف على جبهات متعددة
يبحث
الباحثون والسلطات المحلية في عدة حلول تجمع بين الطبيعة والهندسة لوقف تآكل
الشاطئ وكبح تسلل مياه البحر وتقوية التربة الضعيفة:
- إعادة تغذية الشواطئ: شحن الرمال
دوريًا لإعادة بناء الحواجز الرملية الموجودة قبالة الشاطئ لصد الأمواج. رغم
أن هذا الإجراء يمنح مزيدًا من الوقت، إلا أنه مكلف ويجب تكراره بعد كل عاصفة
تجرف الرمال المُعادة.
- حواجز الحماية والحواجز الخارجية: تركيب كتل
خرسانية وصخور كبيرة في عرض البحر لتفتيت قوة الأمواج قبل وصولها إلى الساحل.
تحمي هذه الأساليب امتدادًا واحدًا من الساحل في المرة الواحدة، لكنها قد
تحرم المناطق المجاورة من الرواسب، مما ينقل المشكلة شرقًا أو غربًا.
- “الأحزمة الخضراء” والسدود
البيولوجية:
زراعة أشجار ونباتات متحللة للملوحة على طول الشاطئ؛ حيث تساعد أنظمة الجذور
القوية هذه في تثبيت الكثبان والتربة. تعمل هذه الحواجز الحياتية أيضًا
كمتنزهات عامة وتزيد من وعي الناس بحساسية الساحل.
- تحديثات الصرف الصحي: تحسين أنظمة
الأنابيب تحت الأرض لمنع تسرب المياه الجوفية إلى الأقبية والطوابق السفلية.
رغم ارتفاع التكلفة، يقلل هذا الإجراء من وتيرة تعرُّض الأساسات للمياه
المالحة الضارة.
- التراجع المدبر: في الأحياء الأكثر عرضة
للخطر، يدرس المسؤولون نقل بعض المباني القديمة أو الرديئة البناء مئات
الأمتار نحو الداخل. رغم أن الأمر يكتنفه حساسية اجتماعية—إذ يتردد السكان في
ترك منازل بنوها آباؤهم وأجدادهم—
فإن هذه الخطوات قد تصبح حتمية في الأحياء التي يتجاوز فيها فقدان الشاطئ خمسة
أمتار سنويًا.
الطريق
إلى الأمام: بين الحفاظ والهجر
تقف
الإسكندرية اليوم عند مفترق طرق: إما الاستمرار في معركة مدمرة ضد البحر المتصاعد
أو تبني استراتيجيات تحولية تمزج بين الهندسة والبيئة والتخطيط العمراني. دون تحرك
سريع ومنسق، قد تصبح المدينة نسخة معاصرة من “فينيسيا الصحراء” — حيث تتحول واجهات الحجر
الجيري والخرسانة العريقة إلى أطلال غارقة.
حتى
الآن، يراقب السكان الساحل بقلق: إذ لم يعد ممشى الأحياء شاطئًا للسباحة
والاستمتاع، بل أصبح مكانًا للتساؤل عن المبنى التالي الذي سيتهاوى. يهمس الجميع
في أرجاء المدينة: إذا لم ننقذ أساساتنا، فسنفقد أكثر من منازلنا؛ سنفقد إرث
الإسكندرية الحي.