مجمع نيقية (2\3): تصاعد الأزمة وتعاليم آريوس عن طبيعة المسيح

 


بطريقة ما انتشرت أفكار آريوس بسرعة. ومن غير الواضح السبب الذي جعلها سريعة الانتشار هكذا. يُشير سقراط ان آريوس "آثار بذلك الكثيرين الي التفكير في المسألة، وهكذا من شرارة صغيرة اندلعت نار كبيرة، لأن الشر الذي بدأ في كنيسة الإسكندرية قد انتشر في سائر أرجاء مصر وليبيا وطيبة العليا، وأخيرًا امتد إلى باقي المقاطعات والمدن. وتبنى آخرون كثيرون اراء آريوس وبصفة خاصة يوسيبيوس أسقف كنيسة بيرتس، ثم إلى حد ما اسقفية نيقودميديا في بيثنية." (تاريخ الكنيسة 1. 6. 1) ويُضيف ثيؤدريت أن اريوس كان قسًا منوطًا به شرح الأسفار المقدسة (تاريخ الكنيسة 1. 1) وتبعه حوالي سبعمائة عذراء مُكرَّسة من الكنيسة وسبعة قسوس وإثنى عشر شماساً و بعض أساقفة ليبيا مثل سيكوندس و بتوليمس.

من الممكن عزو هذا الانتشار السريع لعدة أسباب. قدم آريوس نظرة أبسط عن الله، جادل آريوس أن يسوع المسيح هو كائن مخلوق، ووسيط بين الله والبشر. هذه النظرة، تجنبت اللاهوت الأكثر تعقيدًا الموجودة في أطروحة الثالوث الأرثوذكسية، وربما بدت أكثر منطقية للعوام. كان مُنْطَلَق آريوس هو أن الله متعالٍ ولا يمكن إدراكه، وجوهره فريد تمامًا وفائق للإدراك لا يمكن معرفته أو تمييزه، ووجود الإبن كمساو وأزلي مع الآب كان يعني بالنسبة له أن جوهر الله قابل للتقسيم أو التعددية، وهو ما تكشفه رسائله والشذرات التي بقيت لدينا من الثاليا. بالإضافة إلى هذا، قدم آريوس وجهات نظره اللاهوتية بطريقة متماسكة وسهلة المنال، جاذبة كلاً من النخبة المتعلمة -من الأساقفة مثل يوسابيوس النيقوميدي والتجمعات الرهبانية- وكذلك الجمهور المسيحي الأوسع من العوام على حد سواء. وعلى الرغم من أن حججه معيبة في نهاية المطاف، إلا أنها كانت تتمتع بما يشبه التماسك المنطقي والبساطة التي لاقت صدى لدى الكثيرين.  يشير سقراط وسوزومين أن آريوس كتب أفكاره في أنشودة دُعيت بالثاليا Θαλεία. ويصفها سقراط أن "سمة كتابتها مهلهلة وباطلة وتماثل في اسلوبها ووزنها أناشيد سوداس Σωτάδης" (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 9. 4) في حين يشير فيلوستورجيوس أن آريوس كتب أناشيد تناسب "البحارة، وعمال الطحن، والسفر، وغيرها. ووضع الموسيقا التي تليق بها. ومن خلال تلك المتعة التي أعطتها الموسيقا اختلس الرعية البسيطة من أجل هرطقته." (تاريخ الكنيسة 2. 2.).

أنشودة الثاليا هي مفقودة بوصفها عملا متكاملا، لكن لدينا منها شذرات في صورة اقتباسات في كتابات أثناسيوس وآخرين- بحسب ما وصلنا منها فهي تُقدم الإبن بصفته كائنا غير أزلي أقل من الله الآب ومنفصل عنه. وبينما لم يتجاهل آريوس فكرة الثالوث تمامًا، إلا أنه قلل من مساواة الآب للإبن واعتبره غير أزلي "مولود" من الله الآب لذا لا يُشاركه طبيعته، بل تقوم بينهما علاقة "تبني". يقول آريوس في الثاليا "إذاً هناك ثالوث، لكن غير متساوٍ في (من نفس) المجد Ἤγουν Τριάς ἐστι δόξαις οὐχ ὁμοίαις، كياناتهم ليست مختلطة فيما بينهم."

لاهوت آريوس

بحسب الشذرات الباقية من أعمال آريوس، خصوصًا الثاليا. فالله "الذي بلا بداية صنع الإبن بداية Ἀρχὴν τὸν Υἱὸν ἔθηκε τῶν γενητῶν ὁ ἄναρχος." وعليه، فالابن "ليس لديه شيء خاص من جوهر الله. لأنه ليس مساويا له ولا من نفس الجوهر Ἴδιον οὐδὲν ἔχει τοῦ Θεοῦ καθ’ ὑπόστασιν ἰδιότητος· οὐδὲ γάρ ἐστιν ἴσος, ἀλλ’ οὐδὲ ὁμοούσιος αὐτῷ." هذه هي الأطروحة الأساسية لكريستولوجيا آريوس.

قُدمت عدة محاولات لتفسير الخلفية التي بَنَيَ عليها آريوس أطروحته. اقترح ر. د. ويليامز، بناء على إشارة في مرسوم قسطنطين ضد الآريوسيين أن أريوس قد بنى أطروحاته مُتأثرًا بفلسفة بورفريوس. يقول المرسوم:

"بما أن آريوس كان مقلدًا للأشرار والأشرار، فمن الصواب أن يعاني من نفس العار الذي يعانون منه. بورفريوس Πορφύριος، الذي كان معاديًا لكل من يتقي الله، ألف كتابًا يتعدى على ديننا، ووجد مكافأة مناسبة: وهي أنه قد تعرض للعار منذ ذلك الوقت فصاعدًا، وسمعته فظيعة تمامًا، وكتاباته الشريرة قد تم تشويهها. دمرت. وبنفس الطريقة يبدو من المناسب أن يُطلق على آريوس ومن هم على شاكلة فكر آريوس من الآن فصاعدا اسم بورفيريين، حتى أن أسماءهم مأخوذة من أولئك الذين قلدوا طرقهم" (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 9. 8).

بالرغم من وجود بعض التشابه بين الأفلاطونية المُحدثة (بورفريوس) والآريوسية فيما يخص التسلسل الهرمي للوجود، ودور الكائنات الوسيطة (الإبن كائن إلهي تابع، ووسيط بين الله والمخلوقات)؛ يظل موضوع هذا التأثير هو مجرد فرضية تخمينية لا يوجد عليها أي دليل. هناك اقتراحات أخرى، اقترح البعض ان آريوس يجب فهمه من خلال التأثير الأنطاكي للوكيان الأنطاكي، حيث خاطب آريوس في رسالته ليوسابيوس النيقوميدي مُلقبًا آياه بـ"الرفيق-اللوكياني συνλουκιανιστής" (ابيفانيوس، باناريون 69. 6. 5). أيضًا اقترح آخرون أن الآريوسية ببساطة تضرب بجذورها في "الثنائية الفلسفية" التي تقترح وجود مبدأين في العالم الإلهي divine realm، في الأفلاطونية الوسطى.

من الصعب الوصول لأي استنتاجات بخصوص الخلفية المُؤسسة لأطروحة آريوس. فما نعرفه عن الفلسفة في الإسكندرية في أوائل القرن الرابع هو قليل جدًا، وبالكاد نعرف شيئًا عن الأفكار الدينية والفلسفية في منطقة ليبيا في أي وقت. لكن المؤكد أن الإسكندرية كانت بوتقة انصهرت فيها فلسفات الأفلاطونية المُحدثة، مع المسيحية، والهرمسية، واليهودية.

حرمان آريوس

حاول السكندروس اثناء آريوس عن أفكاره، إلا أن الأخير لم يستجب. وعليه، قام الكسندروس بعقد مجمع في الإسكندرية في وقت ما بين أعوام 318-324م، والذي بحسب رسالة الكسندروس والتي ضْمّنَهَا سقراط، شمل مئة أسقف من الاسكندرية وليبيا (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3)، وفي نفس الوقت قام السكندروس بكتابة رسالة الي الأساقفة "الثابتين في المدن العديدة" (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3) مهاجمًا آريوس ويوسيبيوس أسقف نيقوميديا وأتباعهم الذين أسماهم "اخيلاس، اثالس، كربونس، اريوس آخر، سارماتس، يوزيوس، لوكيوس، جوليان، ميناس، هيلادس، جايوس. وإلى جانب هؤلاء يمكن أيضًا إضافة سيكوندس وثيوناس اللذين كانا ذات مرة أساقفة" (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3). وفي رسالته هذه شرح الكسندروس أفكار آريوس واتباعه كالآتي:

"أما العقائد التى ابتدعوها وأكدوا عليها ضد الكتاب المقدس فهى كالآتى: أن الله لم يكن دائما آبًا، ولكن كان هناك وقت لم يكن فيه آب. وأن "كلمة الله" لم يكن منذ الأزل، ولكنه مصنوع من العدم لأن الله الدائم الوجود ("أنا هو"، الأزلى) صَنع من العدم ذاك الذي لم يكن له وجودٌ سابق. لذلك كان هناك وقت لم يكن موجودا فيه، ومن ثم الإبن مخلوقٌ ومصنوع. وأنه ليس مثل الآب بالنظر إلى جوهره. ولا هو، من حيث الطبيعة، كلمة الآب الحقيقى. ولا الحكمة الحقيقى. ولكنه فى الحقيقة أحدُ أعماله وخلائقه. وأنه دُعِىَّ "كلمة" و"حكمة" على نحوٍ غير صحيح من حيث إنه هو نفسه قد صُنِع من كلمة الله وحكمة الله التى بها صنع اللهُ جميعَ الأشياء، وهو أيضا. ولذلك هو من حيث الطبيعة متقلبٌ وخاضع للتغير مثل باقى المخلوقات العاقلة. ومن ثم الكلمة غريبٌ عن جوهر الله ومختلف عنه، والآب لا يمكن للإبن أن يعرفه، فهو غير مرئى له. لأن الكلمة لا يعرفُ الآب بالكمال وعلى وجه الدقة، ولا يمكنه أن يراه بتدقيق. والإبن لا يعرف طبيعة جوهره، لأنه صُنِع من أجلنا، لكي يخلقنا الله به، كما بأداة، وما كان ليوجد قط ما لم يكن الله قد أراد أن يخلقنا. ولمّا سألهم شخص ما هل يمكن لكلمة الله أن يتغير مثلما حدث للشيطان؟ فلم يخشوا من القول: نعم يمكنه، لأنه مخلوق وخاضع للتغير" (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 3) وإختتم رسالته بإعلان حرم آريوس: " لذلك اجتمعنا نحن أساقفة مصر وليبيا، حوالي مائة بالعدد، وحرمنا آريوس لنطقه بلا خجل بهذه البدع...." (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 3)

حاول آريوس الدفاع عن نفسه في سلسلة من الرسائل. وتكشف رسالة آريوس إلى يوسيبيوس النيقوميدي عن نفس الأطروحة اللاهوتية التي عارضها البابا الكسندروس. كتب آريوس: “نحن نُضَطهد لأننا نقول إن الابن له بداية، ولكن الله ليس له بداية وايضًا لأننا نقول إنه من العدم. ونحن نقوله ذلك لأنه ليس جزءًا من الله ولا من أي كائن جوهريًا” (ثيؤدوريت، تاريخ الكنيسة 1. 4)

في مقابل مجمع ورسائل الكسندروس، كتب يوسيبيوس النيقوميدي عدة مرات الي الكسندروس طالبا منه أن يضع جانبًا المنازعات مع آريوس وأن يقبله هو وأتباعه في الشركة مرة أخرى (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 7). لكن، وبسبب عدم تراجع آريوس وأتباعه عن أفكارهم، لم تنتهِ هذه المراسلات إلى شئ.

إرسال تعليق

أحدث أقدم