في عام 2003 أصدر الروائي الأمريكي دان براون
روايته الأشهر "شفرة دافنشي The Da Vinci Code"، والتي لاحقًا تم تبنيها في فيلم يحمل نفس الإسم من بطولة
الممثل الحائز على الأوسكار توم هانكس عام 2006. نَسَجَ دان براون روايته المثيرة
حول نظرية مؤامرة تجعل من مجمع نيقية حدثًا محوريًا تم فيه قمع الأفكار البديلة
حول حقيقة هوية يسوع، وحَصْر التسلسل الهرمي للسلطة في الكنيسة في أيدي الرجال. يصور
براون المجمع كمشهد للمكائد السياسية والصراع على السلطة، يتم فيه الاقتراع حول
هوية يسوع واختيار الأسفار المقدسة للعهد الجديد. بالرغم من أن أطروحة الرواية هي
خيالية في الأساس، وتفتقر إلى الأدلة التاريخية، إلا أنها استحوذت على الخيال
الشعبي العام، ولازالت أفكارها يتم تبنيها من قِبَل دوائر كثيرة من مهاجمي
المسيحية واتباع نظريات المؤامرة خصوصًا مع تحولها إلى فيلم سينمائي.
لكن، وبينما تبتعد الرواية عن الحقائق التاريخية، يبقى السؤال قائمًل: ما الذي تُخبرنا به المصادر التاريخية عن مجمع نيقية؟
في هذه السلسلة -المكوّنة من ثلاث مقالات- حاولت
الاعتماد قَدرْ الإمْكان على المصادر التاريخية المُتوافرة بالعربية، وفي حالة عدم
توفر مصدر باللغة العربية أوضحت ذلك بين قوسين.
يمثل عام 325 م لحظةً فارقةً في التاريخ
المسيحي، حيث انعقد مجمع نيقية الأول بغْية إنهاء الانحراف الخريستولوجي الآريوسي.
وهو الخلاف البارز الذي سيشكل مسار اللاهوت المسيحي لقرونٍ قادمةٍ. سَعَى مجمع
نيقية، الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى معالجةِ الخلاف اللاهوتي الذي هدَّدَ
وحدة الكنيسة والإمبراطورية.
تَكمُن أهمية مجمع نيقية في كوّنه دافع عن طبيعة
المسيح التي هي قلب الإيمان المسيحي. لم تكن الهرطقة الأربوسية مجُرد فكرة لاهوتية
مجرد، بل كانت لها تداعيات عميقة على فهم الخلاص. إذا كان المسيح مجرد كائن مخلوق،
فهل يمكنه حقًا أن يفدي البشرية من خطاياها ويصالحها مع الله؟ الإيمان بأن المسيح
هو الله المتجسد يؤكد أن الكفارة والخلاص هما عمل إلهي كامل، لا يحده قصور
المخلوق. إذا كان المسيح هو الله نفسه، فإن عبادته هي عبادة لله الآب. هذا هو الإيمان
الذي يقود حياتنا الروحية نحو المسيح كمركز للعبادة، ويؤكد على مكانته الفريدة
كوسيط وحيد بين الله والبشر، ليس كمعلم أخلاقي أو نبي عظيم، بل كشخص إلهي يقودنا
إلى الآب. من جانب آخر، فكرة أن الله نفسه، في شخص الابن، قد تجسد وتألم ومات من
أجل خلاص البشرية، تكشف عن عمق غير محدود لمحبته وتضحيته. بدون هذا الإيمان لا
يُصبح للقصة المسيحية أي معنى أو فائدة.
المصادر التاريخية عن بداية هرطقة آريوس
تتنوع المصادر التاريخية التي وصلتنا عن بداية الجدال
الآريوسي. لدينا عمل ابيفانيوس أسقف سلاميس "باناريون Πανάριον" وهو
عمل كَتبَه ضد الهرطقات في النص الأخير من القرن الرابع، وقد ناقش ضمن ما ناقش
هرطقة آريوس، وهو منشور باللغة العربية. لدينا من المؤرخين الكنسيين: يوسابيوس
القيصري (القرن الرابع) والذي كان مُعاصرًا وحاضرًا في المجمع وقد ناقش الأمر في
أعماله "حياة قسطنطين" و"ضد ماركلينيوس." من المؤرخين
الآخرين: ثيؤدريت (القرن الخامس) في عمله "حياة قسطنطين"، وسوزومين
(القرن الخامس) "تاريخ الكنيسة"، وسقراط (القرن الرابع والخامس) "تاريخ
الكنيسة"، وفيلوستورجيوس (القرن الرابع والخامس) "تاريخ الكنيسة"
وهو مُعارض لمجمع نيقية ورافض لمصطلح "من نفس جوهر الآب." وهي أعمال
كلها منشورة بالعربية. أيضًا أعمال أثناسيوس الرسولي رئيس أساقفة الأسكندرية
وخليفة الكسندروس (القرن الرابع) هي في غاية الأهمية، ليس فقط لأن أثناسيوس كان له
الفضل في القضاء على الآريوسية لكن أيضًا، لأنها احتفظت لنا بشذرات عديدة مما كتب
آريوس. هناك أيضًا أعمال أقل أهمية وهي تاريخ منسوب إلى جلاسيوس أسقف سيزيكوس
(القرن الخامس)؛ كذلك هيلاري أسقف بواتييه (القرن الرابع) في عمله عن "الثالوث."
بالإضافة أمبروسيوس (القرن الخامس) في عمله "عن الإيمان"، وجيروم
(ايرونيموس، القرن الخامس) في "الحوار ضد لوكيفرانوس"، وروفينوس (القرن
الخامس) في "تاريخ الكنيسة"، وغيرهم من الكُتاب الكنسيين، لكنها غير
منشورة بالعربية.
لم يصلنا أيًا من أعمال آريوس بصورة مُستقلة،
لكنها وصلتنا في صورة مقتطفات في المصادر السابقة.
من هو أريوس؟
تُجمع المصادر المسيحية المُبكرة أن الأزمة قد
بدأت من قسٍ سكندري يُدعى آريوس Ἄρειος. يشير
ابيفانيوس أن آريوس -والذي وُلد في ليبيا- كان قسًا على كنيسة تدعى بوكاليوس (باناريون
68. 4. 2؛ 69. 12؛ 69. 24). تُعد
منطقة "بوكولوس Βουκóλος" أو
"بوكولو Βουκóλου" من
أكثر مناطق الإسكندرية القديمة التي يَصعُب تحديدها جغرافيًا في الإسكندرية الحالية.
لم يأت ذكر لهذه المنطقة في النصوص القديمة ما قبل المسيحية، لكنها ظهرت في النصوص
المسيحية مثل نص "أعمال واستشهاد مرقس Acta Marci" (غير منشور بالعربية)؛ بالإضافة لظهورها بالارتباط مع مكان
كنيسة دُعيت كنيسة "بوكولوس" نسبة إلى المنطقة. يبدو أن كلمة "Βουκóλου" هي من
الكلمة اليونانية "Βουκóλος" والتي تعني "راعي
البقر"، ويبدو أن الكُتاب المسيحيين قد فهموها بهذه الطريقة. يقول نص أعمال واستشهاد مرقس أنه حين قبضوا على مرقس
"ربطوا حبلاً على عنقه وجروه، قائلين: لنجر الجاموس في بوكولو Βουκóλου" (أعمال واستشهاد مرقس 9) في إشارة أن
كلمة "بوكولوس/بوكولو" ربما تعني بالفعل مرعى البقر. ويُضيف نص "أعمال
واستشهاد مرقس" أنه تم إقامة مزار في موضع استشهاد مرقس في منطقة
"بوكوليا Βουκóλια "، شرق
الميناء الجديد. لكن، يقترح روان ويليامز أمرين: الأول هو أن الكلمة اليونانية
"βαυκᾰλις" والتي تعني "وعاء النبيذ"، قد تكون اشارة لمكان لصناعة
النبيذ قد حل المزار محلة لاحقًا، وتم تحريف الكلمة عند النقل بالخطأ لاحقًا إلى Βουκóλου و Βουκóλος والتي تعني "راعي/مرعى
البقر." وعليه، فالاقتراح الثاني،
هو انه يُحتمل ان تكون منطقة
بوكاليس βαυκᾰλις المقصودة هي بالقرب من منطقة مقابر الشمالية
في شرق الإسكندرية. الجدير بالذكر أن سترابون قد أشار إلى أنه عند بحيرة مريوط
والتي يصف أنها تقع على "مسافة سبعين ستاديا" (أي حوالي 11كم) من منطقة
المقابر الغربية، هناك مكان لصناعة النبيذ (سترابون، الجغرافيات 17. 1. 14-15).
ربما يكون هذا الاقتراح مقبولاً، خاصة وأنه كثيرًا ما يتم نقل أسماء الأمكنة
والأشخاص بصورة خاطئة، لكن لا يوجد دليل يؤكد أنه هذه هي المنطقة التي أشار إليها
سترابون خاصة وأنه لم يذكر المكان باسم محدد.
لكن
لماذا تحديد بوكولوس/بوكاليوس/بوكاليس بهذه الأهمية؟ ارتباط هذه الكنيسة بقصة
استشهاد مرقس الرسول ومزاره، تشي بأهميتها، مما يعني أن آريوس لم يكن قسًا لكنيسة
مغمورة، بل لكنيسة مهمة في الإسكندرية. وبحسب إشارات ابيفانيوس ورسالة قسطنطين
لآريوس عام 333م يبدو أن آريوس كان قسًا متقدمًا في السن (باناريون 69. 3.
1).
بداية الأزمة
يُشير سقراط إلى أسباب بداية الأزمة بين
الكسندروس أسقف الاسكندرية وآريوس. فقد اعتقد آريوس أن الكسندروس يُعلِّمُ نفس
تعاليم سابيليوس، وذلك في عظة ألقاها الكسندروس عن الثالوث في حدود عام 318م. بحسب
سقراط، كان الموقف هكذا:
"بعدما عانى
الأسقُف بطرس الاستشهاد على يد دقلديانوس نُصِّب آرخيلاوس في منصب الأسقفيَّة، هذا
الذي خلفهُ الكسندروس في فترة السَّلام المُشار إليها سابقاً. في مُمارسته -التي
بلا خوفٍ- لمهامه الإداريَّة والتَّوجيهيَّة في الكنيسة، قرر يوماً في محضر
القساوسة وباقي الإكليروس أن يشرح -رُبّما- بتفاصيل فلسفيَّة دقيقة سرّ وحدة
الثَّالوث القُدُّوس. ظنَّ أحد القساوسة الذين تحت سُلطته - يُدعى آريوس - وكان ذا
فطنة منطقيَّة لا يُستهان بها، أن الأسقُف لديه نفس نظرة سابِليوس الليبي تجاه هذا
الموضوع، فعارض أقواله [أي أقوال البطريرك آلكسندروس] بعنادٍ فاق الحد، مُقدّماً
خطئاً آخر تجاه الذي اعتبره أنَّه قام لأجل تفنيده. فقال آريوس: "فإذا كان
الآب ولد الإبن فالذي وُلِدَ يتحتم أن يكون له بدءُ وجود، إذن فالإبن كان غير
موجود في زمن ما، من ثم فالإبن مخلوق من لاشئ " (تاريخ الكنيسة 1. 5.
1-2).
من المُستعبد أن يكون البابا الكسندروس قد
عَلَّمَ تعليمًا خاطئًا، فلم يتم اتهامه بهذا الاتهام من قِبَل أيِ من المجتمعين
في نيقية أو حتى قبل انعقاد المجمع. لكن من المُرجح أن آريوس ربما قد يكون اساء
فهم شيئًا قاله الكسندروس.
قد تكشف تلك العبارات المُقتضبة التي أوردها
سقراط عن كريستولوجيا آريوس عن سبب اتهامه لألكسندروس بالسابيلية. خطأ آريوس
اللاهوتي يكمن في خلطه بينما هو زمني وما هو أزلي. فهو يفسر مصطلح "الولادة"
بمعنى زمني بحت، مما يعني بالضرورة وجود علاقة متعاقبة -وبالتالي زمنية- بين الآب
والابن، حيث يبدأ وجود الابن في نقطة معينة من الزمن. يفشل هذا الفهم في إدراك الفهم
الثالوثي الأرثوذكسي للعلاقات الأزلية بين أشخاص الثالوث، حيث في ذات الوقت يكون أشخاص
الآب والإبن والروح القدس هم ألوهة واحدة.
بجانب هذا، يُقدم ثيودوريت سبباً إضافيًا لبداية الأزمة،
فآريوس إلى جانب كونه قسًا كان حافظاً مؤتمناً على مخطوطات الكُتب المُقدَّسة، لكن
تملكه الحسد تجاه البطريرك الكسندروس جعلته "يعارض التعاليم الرسولية التي
لالكسندروس" (تاريخ الكنيسة 1. 1). لكنه يُشير أيضًا، أن آريوس قد ظهر
كمثير للمشكلات منذ زمن أخيلاس Αχιλλάς (أرشيلاوس) رئيس الأساقفة السباق
لالكسندروس (ثيؤدريت، تاريخ الكنيسة 1. 1).