وفقًا للمعلومات
المتاحة، فإن الأحداث التي وقعت في السويداء خلال الفترة 13-17 يوليو 2025، شهدت
أعمال عنف طائفي دامية، وذهب ضحيتها المئات من المدنيين. قامت قوات الحكومة
السورية الجديدة (نظام الشرع) بارتكاب جرائم قتل وإذلال ومس بالكرامة بحق
المواطنين السوريين الدروز في السويداء. تُشير تقارير الشبكة السورية لحقوق
الإنسان إلى مقتل ما لا يقل عن 321 سوريًا وإصابة ما يزيد عن 436 آخرين في محافظة
السويداء منذ اشتعال الأزمة. هناك مشاهد متداولة (منها فيديوهات) تُظهر عمليات نهب
وحرق وإذلال بحق المدنيين الدروز في بيوتهم، بما في ذلك حالات قتل لمدنيين بأعداد
كبيرة. بالإضافة الي "مشاهد حلق الشوارب" للرجال الدروز، وهي ليست مجرد
إهانة جسدية عابرة بالنسبة للدروز، بل هي فعل رمزي يمس جوهر هويتهم وكرامتهم
وشرفهم ورجولتهم، وتُعتبر هجومًا مباشرًا على وجودهم الثقافي والديني.
لطالما كان الدروز، أو
"الموحّدون" كما يسمّون أنفسهم، مجتمعاً غامضاً، يعيشون في قلب الشرق
الأوسط، وتاريخهم عميق ومتجذر كالجبال التي يقطنونها. يقدّر عدد الدروز بحوالي 800
ألف إلى مليون نسمة حول العالم، ويتركزون بشكل أساسي في لبنان وسوريا وإسرائيل، مع
وجود جاليات أصغر في المهجر.
النشأة والخلافة
تعود نشأة العقيدة
الدرزية إلى القرن الحادي عشر الميلادي في مصر الفاطمية. ظهرت كفرع من الإسماعيلية
الشيعية خلال فترة حكم الخليفة الفاطمي السادس، الحاكم بأمر الله (996-1021 م).
كان الحاكم بأمر الله شخصية مثيرة للجدل وغريبة الأطوار، وقد بدأ بعض الدعاة
الإسماعيليين في عهده بتنظيم حركة تعلن ألوهية الحاكم، وهي فكرة يُعتقد أن الحاكم
نفسه شجعها، لكن المؤسسة الدينية الفاطمية أدانتها كبدعة. في عام 1017 م (408 هـ)،
جرى الإعلان عن هذه العقيدة علناً لأول مرة، مما أدى إلى اندلاع أعمال شغب في
القاهرة.
كان حمزة بن علي من
خُراسان، قد قَدَمَ إلى مصر وتحالف مع محمد بن إسماعيل نشتكين الدرزي (وهو فارسي).
نادى الاثنان بألوهية الحاكم بأمر الله وأن الإلهَ حلَّ فيه. دفع هذا الحاكم
بتلقيب حمزة ب"رسول الله"، وجعله "داعي الدعاة." قام حمزة بتنظيم العقيدة الدرزية (نسبة إلى
رفيقه محمد نشتكين الدرزي)، مقدماً نفسه كحلقة وصل بشرية مباشرة مع الذات الإلهية.
لاحقًا، أُعلن الدرزي مرتدًا داخل الحركة
ويُعتقد أن الحاكم أمره بقتله.
بعد اختفاء الحاكم بأمر
الله الغامض في عام 1021 م، تعرضت الحركة للاضطهاد الشديد في عهد خليفته الظاهر.
اضطر حمزة للاختباء، وتولى المقنّى بهاء الدين قيادة الدروز، مواصلاً شرح العقيدة
الدرزية من خلال رسائل رعوية حتى عام 1043 م. في حين تلاشت العقيدة تدريجياً في
مصر، إلا أنها نجت وازدهرت في المناطق الجبلية المعزولة في سوريا ولبنان، حيث كان
المبشرون قد أسسوا مجتمعات مهمة. هذا الاضطهاد المبكر دفع العقيدة إلى التمركز في
مناطق جبلية وعرة، مما وفر لها حماية طبيعية وساعد على بقائها وتماسك مجتمعاتها
بعيداً عن السلطة المركزية، وهو ما يفسر استمرارها على مر القرون.
تعتبر لحظة "إغلاق
الدعوة" أو "إغلاق الباب" حوالي عام 1050 م حدثاً محورياً في تاريخ
الدروز. فبعد هذا التاريخ، لم تعد العقيدة الدرزية تقبل المتحولين من الخارج،
وأصبح الانتماء إليها مقتصراً على المواليد من أبوين درزيين.
المعتقدات
1)"التوحيد":
جوهر المعتقد
في قلب العقيدة الدرزية
يكمن مفهوم "التوحيد"، وهو الإيمان بوحدانية الله المطلقة والمتسامية،
والذي يُشار إليه غالباً بـ "العقل الكلي الأعظم". يرفض الدروز أي
تمثيلات تجسيمية للإله، ويرون أن الله يتجاوز الفهم البشري والعقل، ولا يمكن وصفه
أو معرفته باسم.
2) الدورة الأبدية: التقمص (تناسخ الأرواح)
يُعد التقمص، أو تناسخ
الأرواح، أحد أبرز الجوانب المميزة للعقيدة الدرزية، وهو معتقد حرفي وليس مجازياً.
يؤمن الدروز بأن الروح البشرية "ترتدي" جسداً جديداً فور مغادرتها الجسد
القديم عند الموت. ويعتقدون أن عدد الأرواح البشرية ثابت منذ الخلق ولا يزيد ولا
ينقص. تنتقل الروح فقط إلى البشر، وليس إلى الحيوانات أو النباتات، ولا يوجد
انتقال للروح بين الجنسين.
تستمر دورة التقمص حتى
تحقق الروح التطهير والوحدة مع الذات الإلهية. فالحكم على الأرواح لا يتم في جنة
أو نار أبديتين، بل يتجلى في هذا العالم عبر دورات متعددة من الحياة، حيث تؤدي
الخطايا والجهل إلى ولادات في ظروف أقل مواتاة، بينما تقرب الحكمة والصلاح الروح
من الحقيقة الإلهية. يرتبط خذا المفهوم يعكس بشكل كبير بالفلسفة الأفلاطونية والديانات
الشرقية حول تطهير الروح. هناك أيضًا، الإيمان بأن "الدرزي يبقى درزياً"
من خلال التقمص، وأن الروح الدرزية لا يمكن أن تولد إلا كدرزية بعد قبولها
"مذهب التوحيد"، وهو ما يعكس فكرة انغلاق المجتمع الدرزي واستحالة
التحول إليه.
3) المبادئ الكونية الخمسة (الحدود)
تؤمن العقيدة الدرزية
بخمسة مبادئ كونية، أو "الحدود"، وهي تجليات من الذات الإلهية الواحدة،
وتمثل جوانب من إرادة الله ونظامه. هذه المبادئ، التي تتجسد في شخصيات تاريخية
محورية، ترتبط بألوان العلم الدرزي:
●
العقل الكلي (الأخضر): يمثل الحكمة، وقد تجسد في حمزة بن علي.
●
النفس الكلية (الأحمر): تمثل الروح والعواطف، وقد تجسدت في إسماعيل بن
محمد التميمي.
●
الكلمة (الأصفر): تمثل أصدق صور الحقيقة الإلهية.
●
السابق (الأزرق): يمثل السبب، وقد تجسد في سلامة بن عبد الوهاب
السامري.
●
اللاحق (الأبيض): يمثل الأثر، وقد تجسد في المقنّى بهاء الدين.
إن ربط هذه المبادئ الكونية بالشخصيات التاريخية المؤسسة للعقيدة،
مع اعتبار الحاكم بأمر الله تجسيداً للواحد الأحد يضفي على الرواية التأسيسية
الدرزية بعداً إلهياً ومقدساً، واعتبار أن مجرد الأحداث البشرية هي تجلّ إلهي مخطط
له.
4) بوتقة الفلسفات والمعتقدات
تتميز العقيدة الدرزية
بكونها مزيجاً فريداً من التأثيرات الدينية والفلسفية المتنوعة. فقد تشكلت من
الإسماعيلية الشيعية، وتأثرت بالفلسفة اليونانية القديمة (مثل أفلاطون وفيثاغورس
وأرسطو)، والتصوف الشرقي، والهندوسية، والبوذية، والثنائية الفارسية، وربما بشكل
ما بالديانة المصرية القديمة. هذا التوليف الفلسفي والديني لم يكن مجرد جمع
للأفكار، بل كان عاملاً حاسماً في تميز العقيدة الدرزية ومرونتها، مما سمح لها
بإنشاء إطار لاهوتي فريد نجح في أن يجذب تيارات فكرية متنوعة في زمن نشأتها، ووفر
لاحقاً مرونة للتكيف مع السياقات الثقافية المختلفة مع الحفاظ على هويتها
الجوهرية.
يبجل الدروز عدداً من
الأنبياء المعروفين في الديانات الإبراهيمية وغيرها، بمن فيهم آدم ونوح وإبراهيم
وموسى ويوحنا المعمدان وعيسى ومحمد، بالإضافة إلى الإمام الإسماعيلي محمد بن
إسماعيل. لكنهم يولون احتراماً خاصاً لشعيب (يُعتقد أنه يثرون، حمو موسى)،
ويعتبرون الدفاع عن "الشعب الأبدي، اليهود" واجباً. هذا التبجيل الخاص
لشعيب والواجب الديني بالدفاع عن اليهود هو جانب فريد من العقيدة الدرزية، ويُعتقد
أنه يكمن وراء الولاء القوي والاندماج للمجتمعات الدرزية في إسرائيل، حيث يخدمون
في الجيش ويشغلون مناصب عامة.
5) النصوص المقدسة والسرية
تُعد "رسائل
الحكمة" (أو كتاب الحكمة/الحكمة الشريفة) النصوص المقدسة الأساسية والمركزية
للعقيدة الدرزية. تدور هذه النصوص حول الإقرار بألوهية الحاكم بأمر الله باعتباره
التجسد الأخير والنهائي للإله الواحد. تحتوي على خطابات فلسفية حول مواضيع
أفلاطونية جديدة وغنوصية، وعلم الكونيات البطلمي، وتفسيرات عربية لفلسفات الفارابي
وأفلوطين وبروقلوس.
تتميز هذه الكتابات
بطبيعتها الباطنية: فهي مكتوبة بلغة وقواعد نحوية وصيغ يصعب على غير المطلعين
فهمها، ومليئة بالكلمات الغامضة والعبارات المبهمة جداً والرمزية والتعداد. وهذا
يقود إلى التمييز بين فئتين داخل المجتمع الدرزي: "العقّال"
(المطلعون/النخبة الروحية) و"الجهّال" (العامة غير المطلعين). يحتفظ
العقّال بأسرار العقيدة ولديهم حق الوصول إلى النصوص المقدسة، بينما يتبع الجهّال
التعاليم الأخلاقية الأساسية دون الوصول إلى المعرفة الأعمق.
إن تقييد وصول الجهّال
إلى هذه النصوص أمر مقصود، ويرتبط بتفسير الدروز لمفهوم "التقية"
(التمويه الوقائي)، ويهدف إلى "منع الضرر المحتمل للفرد والمجتمع إذا جرى
تفسير الكتابات بشكل غير صحيح". دراسة رسائل الحكمة يجب أن تكون مصحوبة
بالتعليقات والتوجيه من العقّال، والذين لديهم "المعرفة العميقة
والحدسية" (الغنوسية) والتي لا يمكن لغيرهم.
6) الممارسات الطقسية
على عكس العديد من
الديانات الأخرى، تفتقر العقيدة الدرزية إلى الطقوس الدينية الرسمية، وأماكن
العبادة، ورجال الدين. فهم لا يصومون، ولا يصلّون خمس مرات في اليوم، ولا يؤدون
فريضة الحج إلى مكة. بدلاً من ذلك، تُعد الممارسة الدينية فردية وتأملية، مع
التركيز على الروحانية الداخلية.
على الرغم من رفض الطقوس
الرسمية، يجتمع أفراد المجتمع في بيوت عبادة بسيطة وغير مزخرفة تُعرف باسم
"الخلوات" للعبادة الجماعية والمناقشة، خاصة في أمسيات الخميس.
المجتمع والسلوك: العيش بالطريقة الدرزية
يتميز المجتمع الدرزي
بتماسكه الشديد، مع تركيز قوي على التماسك الاجتماعي والدعم المتبادل والولاء بين
"الإخوة". هذا المبدأ الاجتماعي الأساسي يضمن تقديم المساعدة لأي درزي
في حاجة إليها.
تاريخياً، كان الهيكل
الاجتماعي الدرزي التقليدي قائماً على العائلة الممتدة (الحمولة)، والتي كانت
حاسمة للبقاء والقوة الاقتصادية، خاصة أثناء الهجرة. تطور هذا الهيكل ليشمل تجمعات
قبلية أوسع (العشيرة) يقودها شيوخ، الذين كانوا يتمتعون بسلطة سياسية واقتصادية.
تُعد ممارسة الزواج
الداخلي (الزواج ضمن المجتمع الدرزي) أمراً أساسياً للحفاظ على النقاء الديني
والهوية. يُمنع بشدة عن الزواج من خارج الدروز، وهو أمر نادر الحدوث، ويؤدي إلى
نبذ اجتماعي وتهميش لمن يخالفه.
تتضمن المعايير
الاجتماعية والمحظورات رفض النيكوتين والكحول والمخدرات الأخرى، والامتناع الشائع
عن لحم الخنزير. كما يُحظر تعدد الزوجات، وهو ما يعكس تأثيراً مسيحياً. ويُمارس
ختان الذكور كتقليد ثقافي، وليس كمتطلب ديني.
هذه المبادئ الأخلاقية
التفصيلية والعادات الاجتماعية التي تحكم جوانب الحياة اليومية، مثل الصدق في
القول، والعناية بالعين (دراسة الكتب الدينية والحكمة)، والعناية بالأذن (عدم
الاستماع إلى النميمة والأكاذيب)، و"حفظ الإخوان" (المشاركة في الحياة
الاجتماعية والدفاع عن الدين، شرف العائلة، الأرض، المجتمع، والدولة) تُظهر أن
العقيدة الدرزية، على الرغم من غياب الطقوس الرسمية، توفر إطاراً شاملاً وعملياً
للحياة اليومية.
الدور السياسي
لعب الدروز دوراً بارزاً
في تاريخ الشرق الأوسط، حيث ساندوا القوات الأوروبية خلال الحروب الصليبية
وتمرّدوا مراراً ضد الإمبراطورية العثمانية. برز قادة إقطاعيون أقوياء مثل فخر
الدين الثاني (القرن السابع عشر) وقادة لاحقون مثل سلطان الأطرش الذي قاد ثورات ضد
الحكم الفرنسي. هذه المشاركة السياسية والعسكرية المستمرة على مر القرون تُظهر
توجهاً براغماتياً نحو الحفاظ على الذات، وهو توجه مُعلن من الدروز وليس أمرًا
خفيًا.
تتجلى أدوارهم النشطة في
الحياة الوطنية في مناطق تواجدهم:
●
في إسرائيل: يعيش أكثر من 100 ألف درزي في إسرائيل، حيث يحتفظون بنظامهم
القانوني الخاص، وقد اندمجوا في الحياة الإسرائيلية، ويخدم رجالهم في الجيش
الإسرائيلي (وهو أمر إلزامي للدروز، وفريد من نوعه بين السكان العرب في إسرائيل)،
ويشغلون مناصب عامة، ويُظهرون ولاءً وطنياً قوياً.
●
في سوريا: تاريخياً، شارك الدروز في الثورات التي أدت إلى بناء الدولة
السورية الحديثة. في الآونة الأخيرة، شكلوا ميليشيات مسلحة لحماية أنفسهم من
جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية ومهربي المخدرات، وحصلوا على درجة من الحكم
الذاتي والإعفاء من التجنيد الإجباري في عهد الأسد. موقفهم بعد سقوط الأسد معقد،
حيث يظهرون شكوكاً تجاه القيادة الجديدة والمُتمثلة في احمد الشرع (الجولاني).
يُلاحظ نمط معقد، وأحياناً متناقض، من الولاء لدى الدروز: فهم
يظهرون ارتباطاً قوياً بأوطانهم التي يعيشون فيها، ولكن لديهم أيضاً عقيدة داخلية
قوية لـ"الدفاع عن الإخوة" يمكن
أن تتجاوز الحدود الوطنية (مثل دعوة الدروز الإسرائيليين للتدخل في سوريا بعد
الأحداث الأخيرة، بينما رفض قادة دروز آخرون في المنطقة ذلك). يشير هذا إلى أن
ولائهم الأساسي يبقى للمجتمع الدرزي نفسه، حتى لو تطلب ذلك التعامل مع مصالح وطنية
متضاربة.